عندما بنت تركيا سد اتاتورك امر توركوت اوزال ان تكتب على اساسه عبارة: ” كم انا فخور لانني تركي ” ويومها علقت الصحف الاجنبية على مدى تجذر الحس القومي عند الاتراك، ومدى حاجتهم للتذكير بماض عريق اندثر تحت حوافر خيل التاريخ الحديث.
وبالامس راينا اردوغان يبني خطابه وسلوكه على الوتر نفسه، وهو ينظر بعين الى الداخل واخرى الى الخارج، متقدما بنفسه نحو الدور الاول في بلاده، حيث تنتهي مدة ولاية رئيس الجمهورية قريبا، ومتقدما ببلاده نحو دور اقليمي ومن ثم اوروبي.
“لست زعيم قبيلة بل أنا رئيس وزراء تركيا”
، وكان على أن اتصرف دفاعا عن كرامة تركيا، كل ما أعرفه أنه يتعين علي الذود عن كرامة تركيا والشعب التركي ويتعين على أن اتصرف على هذا النحو”
اطلق الرسالة بذكاء وردت عليه الجماهير التي استقبلته في مطار اسطمبول بالقول
شاهد العالم ما لم يحدث لسنوات، لقد شاهدوا قوة الأتراك وأظهر (تصرف أردوغان) أن لنا مكاننا في أوروبا وفي العالم”.
موقف الكرامة هذا، متى يمكن لعربي ان يحلم به؟ وكم يبتعد هذا الحلم بعدما راينا استجابة عمر موسى لاشارة يد بسيطة من بان كي مون، والعودة الى الجلوس بعدما تردد في الالتحاق باردوغان في احتجاجه على امتهان الكرامة الذي طال عمر موسى ايضا من قبل الصحفي الاميركي، ومن قبل الرئيس الاسرائيلي؟
متى يمكن لجميع المسؤولين، من امين عام الجامعة الى المتربعين على رؤوس دولنا الثنتين والعشرين، انه لن يكون لنا مكان في اوروبا والعالم، كما قال الاتراك، طالما اننا لم نحتل مكاننا في نادي الكرامة القومية.
اسئلة لاتنطلق من العاطفة والحماس بقدر ما تتوج تحليل الواقع السياسي الاقليمي، حيث تبرز الان القوة التركية، بحسم، معادلا ثابتا للقوتين الايرانية والاسرائيلية، في حين يتحرك العرب باشارة من يد شهدناها بالصدفة هذه المرة، ونتخيلها تماما وهي تتحرك عند كل مفصل، وكل موقف.
قادة كثيرون في هذا العالم تقدم لنا مسيرتهم دروسا، لو نحسن التقاطها. ومسيرة اردوغان منها، فابن الاسرة البسيطة لم يصعد سلم السلطة الا بفضل الحياة الحزبية الديمقراطية، حيث قامت سمعته اساسا، منذ اصبح عمدة اسطمبول على: ” نظافة اليد “، هذه العبارة التي اصبح لها فعل السحر السيكولوجي في عالم يبلغ فيه الفساد حدودا سوريالية على امتداد العالم الثالث. ( ولا ينسى احد دورها في شعبية احمدي نجاد او هوغو شافيظ على سبيل المثال ). والشاب الذي درس في المدارس الدينية،وخرج منها بقناعاته الدينية المؤكدة التي قادته الى حزب الفضيلة ثم الى حزب الرفاه خرج من التجربة نفسها بدرس حكيم اخر، وهو ان التطرف الاسلامي العابر للحدود القومية، والقائم على الغاء الاخرين لا يضعف الاسلام فحسب بل يضعف الدولة المعنية نفسها. وعليه تبنى اردوغان خطا جديدا قائما على ثلاثة قواعد:
الاول استعادة الخطاب القومي التركي، اسلاميا، وقد تجلى ذلك في اصرار اردوغان على تكرار استعادة العثمانيين في خطابه، وفي الحياة العامة التركية حيث تنتشر الان في الشوارع وعلى الواجهات الرموز العثمانية القديمة وصور السلطان سليم مؤسس الامبراطورية، ولا يخرج عن هذا السياق قوله خلال معركة غزة: ” انا لست اي رئيس انا وريث الامبراطورية العثمانية ” او ما قاله بعد دافوس. وبما يفترض ان ينتج منطقيا عن تبن خطاب قومي، فتح اردوغان حزبه لمنتسبين من جميع التيارات السياسية التركية من قوميين ويساريين ومتدينين.
الخط الثاني والذي لا ينفصل عن الاول، طرح صورة اسلام معتدل ليس فقط من حيث الغاء الاخر او قبوله، بل من حيث اسلوب العمل والتعامل مع الاخرين, فالعالم هنا ليس امام شيء اسمه تنظيم القاعدة، يعتمد الارهاب الدامي،دون ان يعرف له مقر ولا جهاز ولا قيادات، ويرفع راية العداء لكل الحضارات والاديان ويعطي الغرب فرصا ذهبية لتشويه الاسلام وللخلط بين المقاومة والارهاب. بل امام اسلام له مؤسساته الدينية، وله مؤسساته الحزبية الديمقراطية، وهو يؤيد حركة اسلامية تخوض حرب المقاومة بكل بسالة دون ان تنزلق الى التورط في الارهاب، وتطرح نفسها كطرف حوار حضاري مع العالم.
طرح لا بد من الاعتراف ان تجربة حزب الله في لبنان قد مهدت له بشكل ممتاز، وبعدها عملية وصول حماس عبر صناديق الاقتراع، وشكلت ماساة غزة الدامية الاخيرة اصبعه القوي الممدود في عيون العالم.
اما الخط الثالث فعبر عنه بالقول: ” نحن حزب اوروبي محافظ ” مؤشرا الى الاحزاب الديمقراطية المسيحية الموجودة في اكثر من بلد اوروبي، والتي يعطي وجودها المبرر لانشاء احزاب اسلامية ديمقراطية. ملغيا بذلك حجة معارضي توق تركيا للانضمام الى المجموعة الاوروبية. واذ يسال عن العلمانية يقول: انا اتبنى علمانية على الطريقة الانكليزية لا الفرنسية. في تعبير يعني الكثير الكثير سواء من حيث الانفتاح الديني الذي تتميز به بريطانيا، او من حيث استقلالية الكنيسة الانكليكانية البريطانية واحتضانها لجميع مواطنيها على اختلافهم.
وفي هذا السياق يضع اردوغان ثقله باتجاه اوروبا، لجميع الاسباب والمصالح التي كانت مطروحة سابقا، اضافة الى سبب اخر هو ان تبني النظام الديمقراطي الاوروبي، يحد او يلغي سلطة الجيش السياسية، وذلك ما يشكل التهديد الاكبر لخط اردوغان في تركيا.
لكن التقدم نحو اوروبا بثقل، يعني دورا اقليميا من الوزن الثقيل، يكون له بدوره تاثيره الكبيراميركيا. خاصة وان واشنطن اليوم تحتاج الى تركيا في ستراتيجيات العهد الجديد ازاء روسيا واسيا، وتحتاج الى تركيا وايران معا في خطتها المقبلة في افغانستان، كما تحتاج اليهما مع سوريا لضمان وضعها في العراق، هذا في حين يجمع هذه الدول الاقليمية الثلاث امر ااخر هو خطر الانفصالية الكردية.ومن جهة اخرى تحتاج المنطقة الى وسيط مقبول في سياق تفاوضي جديد تريده واشنطن للموضوع الفلسطيني، وتركيا المرتبطة بمعاهدة ستراتيجية مع اسرائيل لاتحتاج الا ان تصبح مقبولة تماما لدى العرب والفلسطينيين، وها هو الرجل يجعلها اكثر من مقبولة. وساطة لن تكون بالطبع دون ثمن، وقائمة الاثمان طويلة لدى اسطمبول على كل الجبهات.
عناصر كثيرة وغيرها، تجعل للعرب، لو كانوا اكثر من قبائل متناحرة، فرصة تاريخية للعب دور لصالح القضية الفلسطينية وسائر قضاياهم، في معادلات يتضاءل فيها دوراسرائيل الاقليمي. ولكن لتتقاسمه مع تركيا وايران، على ظهورهم.