الحرب بين اسرائيل والفلسطينيين، والتنافس بين حماس وفتح، والرهان بين الولايات المتحدة ومناهضي مخططها.
لكن الخاسر الاكبر والرابح الاكبر فيها، هما طرفان غير كل هؤلاء. الخاسر الاكبر كان مصر، وللاسف فان ذلك لا بد وان يسجل في قائمة خسائر العرب، وقد تناولناه سابقا، اما الرابح الاكبر فهو تركيا. الدولة المسلمة العلمانية، الاسيوية الاوروبية، وريثة الامبراطورية العثمانية وبالتالي المهزومة في الحرب العالمية الثانية، عضو الاطلسي والطامحة الى عضوية الاتحاد الاوروبي،صاحبة اكثر الاقتصادات نموا في وسط الازمة الاقتصادية العالمية، موقعة التحالف الستراتيجي مع اسرائيل وضيفة مؤتمرات القمة العربية . دولة المتناقضات والحكم الذي يعرف كيف يوظف المتناقضات لصالح الدولة لا ضدها. كما يعرف ان يستغل الازمات والكوارث لتطوير دوره الاقليمي، وبالتالي توظيف هذا الدور لدى القوى الدولية. فبالامس افادت تركيا من فتح صفحة شرخ سني شيعي انطلاقا من العراق، لتطرح نفسها كمعادل موضوعي لايران على الساحة الاقليمية، واليوم تستفيد من الموقف المعروف ازاء ازمة غزة لتحقق جملة اهداف تشكل انجازا كبيرا اذ تحققت مرة واحدة.
اهداف صيغت رسائل موجهة الى الفلسطينيين،الى اسرائيل، الى العرب، الى القوى الاقليمية، الى اوروبا والى اميركا.
الى فلسطين حيث تركيا اليوم هي الاكثر قبولا، وهي التي تطرح امكانيات الحل الداخلي عبر اصرار اردوغان على عدم امكانية استبعاد حماس من السلطة، وضمن منطق ديمقراطي يفرض اعطائها مكانها : “”مكانها على الساحة الديموقراطية الفلسطينية” بحسب قوله.
الى اسرائيل، حيث تركيا هي ايضا القادرة على ان تهدد الدولة العبرية في مصالحها بحيث لاتستطيع تل ابيب اغضاب انقرة: ” ان اسرائيل تعرف معنى ان تكون تركيا مستاءة ” قال اردوغان، وهذه المعرفة تعني عشرة مليارات من العقود التي لا يستطيع الاقتصاد الاسرائيلي المهدد باكبر عجز في تاريخه تحمل الغائها او مجرد تجميدها.
الى العرب، حيث لسان تركيا دعوة لتغيير حال مؤسف غير مبر ر، بحسب تعبيره ايضا : “ان حزني الحقيقي هو على السلام بين العرب انفسهم”.
الى اوروبا مذكرا بانه لا يتحدث كسياسي عادي وانما كوريث للامبراطورية العثمانية، بما كان لتلك الامبراطورية من سلطة اقليمية تعمل الان على استعادتها وتجعل منها مرشحا لا يرفضه حريص على مصالح المجموعة الاوروبية.
الى الاميركيين: ها انا الاطلسي الوحيد القادر على ان يكون صديقا للعرب ولاسرائيل، وعليكم ان تقدموا لي ما يرضيني كي تمنعوني من الاقتراب اكثر من روسيا ومن ايران. وها انا قوة الاسلام المعتدل الذي يمكن ان ياخذ حماس الى ركابه ويبعدها عن القاعدة. ويعينكم بذلك على حرب ضد الارهاب، ابتدعتموها وتحولت نارا قد لا تستطيعون اخماد اذاها.
الى الباحثين عن عملية سلام، قد تتغير ملامحها واساليبها مع الادارة الاميركية الجديدة التي تفضل القفازات الناعمة على العصاة الغليظة ولو لم يتغير الهدف، بحيث يبدا اردوغان رسالته اليهم بادانة لاسرائيل ترضي العرب: ” لا يمكن المضي في مسيرة سلام لا يحترمها احد اطرافها ” دون ان يقفل الباب امام استئناف الدور التركي في هذه المسيرة اذا ما عادت اسرائيل الى احترامها “عندما نرى نية وارادة اسرائيلية لتحقيق السلام سنعاود جهودنا من اجل المساعدة على تحقيقه”. راميا الكرة في الملعب الاسرائيلي: “الهجوم الاسرائيلي الاخير على غزة زرع بداخلنا جميعا شكوكا قوية تجاه جدية اسرائيل ونزعتها نحو تحقيق السلام”. مما لا يستبعد مستقبلا استعادة الدور التركي في هذه العملية وانما على العكس، يعززه.
وبالمقابل لا يلتزم باي دور عسكري في غزة، مع عدم استبعاد ارسال مراقبين مدنيين اذا كان ذلك ضروريا من اجل تثبيت وقف اطلاق النار في حال طلب الفلسطينيون ذلك”.اضافة الى استعداد بلاده لتقديم “كل انواع المساعدة التقنية والخبرات من اجل اعادة اعمار غزة واعادة بناء الاجهزة السياسية والاقتصادية والاجتماعية”.
مما يعني دورا كبيرا في الحياة الفلسطينية، يقطع الطريق على الجميع وفي مقدمتهم ايران، تليها مصر والسعودية، مما يفعل ايضا دورها المتنامي مع دمشق، وفي العراق. دون ان يلغي ابدا اتفاق التعاون العسكري الموقع مع اسرائيل عام 1996
واذا لم يكن لاي عربي الا وان يشكر المواقف التركية من غزة، عندما يكون الاخرون على القدر الذي عرفناه من التخلي، فان التحليل السياسي لا يسمح بسيطرة العواطف، التي لا تترك لها المصالح مكانا في معادلات السياسة. العثمانيون عائدون، تماما كما جاؤوا في المرة السابقة نتيجة لتخلي العالم العربي واستقالته من القيادة. في سياق اقليمي فرضته الجغرافيا منذ بداية التاريخ حيث ثلاث كتل جغرافية تتنازع النفوذ في هذا الشرق الاوسط الكبير: اما ان تتوازن، وتقيم احلافا، واما ان تتنازع ليقتسم فيها القوي جثة الضعيف: الم يات الاسلام الى هذه المنطقة، راية عربية في مواجهة الصراع الساساني البيزنطي على الهيمنة؟ الم تترسخ دولته بعد انتصاري اليرموك والقادسية، على التوالي؟
ما تغير اليوم، هو سياقات دولية اخرى، وهو اضافة قوة اقليمية رابعة الى ساحة التنافس هي دولة اليهود، فلماذا لا يقتسم الثلاثة عيون الخليفة العربي المقلوعة في بغداد؟