السيدة الاميركية التي كانت اولى واصبحت رئيسة لديبلوماسية بلادها تعد اليوم بانها ستكون صوت النساء في العالم. وتمضي في خطاب طويل لا يترك بلاغة انشائية ولا لعبا على عواطف المكبوتات والمعاناة من غياب العدالة الاجتماعية على مستوى الجنس في العالم، الا وتضرب عليه. القراءة تبدوللوهلة الاولى مغرية، وتشكل ارضية ممتازة لدفع النساء في كل مكان الى التعاون مع ما دعت اليه الوزيرة الاميركية من مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات التابعة للتمويل الاجنبي ( الغربي والاميركي تحديدا )، للتشبث بخشبة الغريق التي ستنقذ نساء العالم على يد سيدة العم سام.
لكن قراءة اخرى لخطاب السيدة الباسمة، تكشف وبسرعة جملة عناصر تثير الاستنكار لمدى استخفاف هذا الغرب بعقولنا، ولمدى خفة عقول بعض نسائنا في تصديقه. فالسيدة تبدا خطابها او تصريحا الطويل بالحديث عن التمييز ضد المراة في الصين، ثم تنطلق في عموميات مطولة الى ان تصل الى افغانستان، ولا تذكر بالاسم الا هاتين الدولتين، حتى ولو كانت من باب الذكاء في التمويه تذكر عبارة او اثنتين عن السعي لتحقيق حظوظ افضل لاحوال المساواة القائمة في اميركا والدول المتقدمة. ولسنا هنا لتاييد ظروف المراة في الصين او افغانستان، ولكن لنسال عما تختلف فيه هذه الاحوال عن احوال الملايين في دول اخرى ليست للولايات المتحدة مصلحة في التحريض ضدها لسبب او لاخر؟
اما الملاحظات الاخرى فتبدا بتركيز السيدة الاميركية على نغمتين غير جديدتين وهما ان وجود النساء في المواقع القيادية يخفف من حدة الحروب والنزاعات، لان المراة هي الاقدر على مد يدها للسلام – بحسب تعبيرها – والاقل رافة ولطفا. وتنسى هيلاري كينتون انها قبل ايام قليلة كانت تعتلي المنصة مع وزيرة خارجية اخرى ( امراتان ) ولا ترى نقاط الدم التي ما تزال تتدفق من اصابع زميلتها الموغلة في شرايين اطفال غزة. كما انها لا تكلف نفسها عناء الاشارة الى هذه الماساة الاحتلالية الافنائية التي اشرفت عليها امراة قضت حياتها من احضان الارغون والشتيرن الى احضان الموساد، وتفخر بانها صادقت عالما عراقيا في باريس لتتوصل الى قتله. كما تفخر بانها في هذا السياق خليفة غولدا مئير المراة هي الاخرى. كذلك نست السيدة ان مارغريت تاتشر هي التي اتخذت خلال رئاستها لوزارة بريطانيا واحدا من اخطر القرارات الاستعمارات الدموية في هذا العصر وامرت اساطيلها بالتوجه لقمع جزر ارادت التحرر، كما يبدو انها لم تر صورة ميشال اليوت ماري وهي ترتدي السترة الواقية وتتحرك بين جنودها في افغانستان كما يفعل كل وزير دفاع. وحتى عندما نعود الى اميركا نفسها، والى المعسكر الديمقراطي الذي تنتمي اليه كلينتون فانها تخلف فيه مادلين اولبرايت التي قالت يوما: لا باس ان يموت مليون عراقي لتحقيق مصالح الولايات المتحدة.
لا نقول ذلك كي نشتم الغرب ومسؤوليه بردات فعل عاطفية، ولا لنقول ان اوضاع المراة في بلادنا بالف خير ولا داعي للتحرك لتغييرها. ولكن لنقول ببساطة ان هناك امرين مبدئيين بسيطين: الاول ان ثمة مصالح للشعوب وللامم، سيعمل على تحقيقها كل من تولى السلطة، امراة كان ام رجلا، ويعمل وفق المخطط السياسي لامته والبرنامج الذي يتولاه حزبه: استعماريا كان ام تحرريا، حربيا ام تفاوضيا، دمويا ام سلميا.
اما الثاني فهو ان اوضاع المراة داخل مجتمع ما لا تتطور الا بفعل تطور المجتمع نفسه عبر علاقة تبادلية منطقية: فتطوره يطورها وتطورها يطوره كما يقول جبران: ” المراة من الامة بمثابة الشعاع من السراج ولا يكون الشعاع ضعيفا الا متى كان الزيت شحيحا”. ولذلك لا بد للنساء في بلادنا ( كما في كل بلد ) من النضال لاجل استتباب الحقوق المدنية والسياسية، مما يمكنهن من اداء الدور الذي يساهم في نهضة بلادهن وامتهن ككل، وهو نضال غير سهل وواجب. نحن لدينا معوقات كثيرة وتحديات كثيرة ولكننا لن نتجاوزها اطلاقا بالاعتماد على حركة الاخر الاجنبي، اميركيا كان ام سواه.
اولا: اذا كان التطور الحقيقي للمراة يقوي الزيت في السراج ويدفع المجتمع كله الى التطور، فهل يعتقد عاقل ان الهدف الاول لاية قوة خارجية وخاصة الولايات المتحدة الاميركية، ومن ورائها الغرب ان تحقق قوة مجتمعاتنا؟ وكيف سيكون لها عندئذ ان تحقق مصالحها المتحققة حاليا في نهبنا والسيطرة علينا ضمن معادلة دولية خطيرة تقول انها اذا فقدت السيطرة على منطقتنا فقدت امبراطوريتها؟
ثانيا: سيقول معترض: ولكن واقع الحال على الارض يبرهن ان الغرب بشقيه يدعم التحركات النسوية. هذا صحيح، ولكن اية تحركات؟ اهو دعم للتحرك النسوي ضمن الاطار السياسي الواعي المقاوم والهادف نهاية الى تحقيق مصلحة حقيقية للامة؟ ام هو دعم تحركات ترتدي اما طابع الفئوية النسوية البحتة التي لا تؤدي الا الى تفتيت قوة المجتمع وتحريك بعضها ضد بعض، او دعم تحركات في ظاهرها سياسية، بمعنى ايصال بعض النساء الى مناصب ولكن شرط اختيار نساء غير مسيسات على الاطلاق، كتل مائعة يتم صبها وتكوينها في القالب الاميركي. او كتل اخرى تمثل كل ما هو في واقع الحال سبب تدمير المجتمعات العربية من تمثيل طائفي مذهبي او تمثيل عشائري محدود؟
وهنا لا بد من الالتفات الى واقع اجتماعي سيكولوجي وهي انه عندما تختار قوة خارجية شريحة محرومة ومكبوتة وغير مسيسة، وتتقدم نحوها مادة اليد التي تعدها بالحرية والمساواة والدعم، وتحشو راسها بشعارات ومصطلحات وتحليلات مبهرة فان النتيجة الحتمية ان تتحول هذه الشريحة الى الولاء لهذا المنقذ الذي فتح كوة الضوء، وان تتحمس كل الحماس للترديد الببغائي لكل ما امطر اذنها وراسها، معتبرة اياه الحل الوحيد الذي عليها ان تقاتل من اجله. بعضهن عن عن غير وعي والاخر عن وعي يعززه الاغراء المنفعي، المعنوي والمادي، ممايفسر انحياز بعض الرموز النسائية اليسارية في العالم العربي الى هذه الزفة.
ان لنا ان نقتنع بان العولمة بشتى اشكالها، بترجماتها الشيوعية والراسمالية، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، هي ان طبقناها كوصفة جاهزة واحدة،ومن صيدلية واحدة هي هباء غباء يسيطر فيه القوي على الضعيف. دون ان يلغي ذلك كون العالمية القيمية، بمعنى المنجز الانساني من تجارب ومفاهيم ومعارف ونظريات هي نبع ثر لكل ان ينهل منه بحسب ما يناسبه.