عندما تصبح الجريمة فاضحة وتصبح مسالة تجاهل الادانة غير ممكنة، تكون لعبة احقاق المساواة مسالة ذكية ومفيدة.
هكذا يتعامل بعض رموز الاعلام الغربي والاسرائيلي مع الجرائم التي ترتكبها اسرائيل بشكل فاقع يعجز التبرير العادي عن تغطيته.
سلوك قد نجده طبيعيا بالنسبة لهؤلاء، لاسباب كثيرة منها ما يريدونه من صورة لهم امام العالم، ومنها ما يريدونه امام انفسهم، ومنها ما يريدونه امام العرب والفلسطينيين انفسهم.
احد ابرز البارعين في هذه اللعبة هو المخرج الاسرائيلي فولمان الذي عرفناه للمرة الاولى بفيلم ” فالس مع بشير ” الذي تناول مجزرة صبرا وشاتيلا. وبني كله على حوار بين جندي اسرائيلي كان في التاسعة عشرة من عمره ايام حصار بيروت ومعالج نفسي اسرائيلي، وبين الاثنين يدور ” عمل على الذاكرة ” التي يهرب منها الجندي ويعالجها صديقه. الفيلم لقي ترحيبا غير عادي في الغرب وحصد كما من الجوائز وتبارى النقاد في اعتباره صرخة حق اسرائيلية ودليلا على انسانية الموقف الذي يحمله هذا المخرج.
بدءا من هذا الانطباع الذي نجخ الفيلم في تشكيله يبدا اكتشاف قدرته على خدمة اسرائيل لا ادانتها، عبر تقديم الانسان الاسرائيلي بشكل يستحق كل التعاطف. وعبر تركيز فكرة اساسية انه يضطر مرغما الى ان يخوض حربا مفروضة عليه.
الفكرة نفسها عادت لتكون صلب الثيمة التي بني عليها شريط جديد نفذه هذا المخرج نفسه حول احداث غزة، يصور انسانا يطوقه حصار غزة من كل جانب،يبدا بالخروج الى النور ليجد امامه طائرا يلوح له، يبتسم ويقترب منه وتبدا دوامة ركض باتجاه الطائر وصراع مع يد تنتصب في وجهه وتمنعه باستمرار. الرجل يركض من غزة الى البحر ومن رفح الى الحدود، وترتمي امامه خريطة عليها مصر واسرائيل وغزة. وبين اليد الضخمة والحرائق المندلعة يتعب الى ان تطبق عليه يدان فتخنقانه.
احتفاء البعض بهذا الشريط ذكرني بما كتبته باحثة غربية مستغربة ترحيب بعض الفلسطينيين والعرب في اوروبا بفيلم ” فالس مع بشير “.
ذاك ان جوهر الموقف السيكولوجي السياسي واحد في الاثنين: المساواة بين الجلاد والضحية، وتوجيه رسالة الى الغرب اولا بان الانسان الاسرائيلي هو مثله مثل الفلسطيني ضحية ” دوامة العنف ” كما يسميها الاعلام الغربي، دون ان ينسى الانتباه الى مسالة تاثير موت الاطفال في غزة، فيعالجها هي الاخرى معتبرا ان الكبار ايضا ضحايا كالاطفال. ولذلك يرفق بشريط الفيديو الخاص بغزة عبارة: ” هذا الانسان هو رجل، طفل، فلسطيني ويهودي.”
واذا كان الفيلم الاول قد هدف الى مسالة سياسية مباشرة هي القاء تبعة صبرا وشاتيلا كلها على عاتق مقاتلي الكتائب اللبنانية، وتبرئة الجنود الاسرائيليين، الا من ذنب انهم لم يمنعوهم من تنفيذ مجزرتهم، فان هذا الهدف هو ابسط ما يحققه العرض، لان ما هو اهم يتمثل في عدة امور اعمق:
الاول ان فلسطين والانسان الفلسطيني غائب في الشريطين: ففي الفيلم لا يظهر الفلسطينيون في صبرا وشاتيلا الا جثثا، ولا يتحدث منهم الا امراتان تصرخ احداهن: اين العرب؟ وتقول الاخرى جملة مشابه بالعربية ( لا يفهمها المتلقي الغربي ) بينما الحاضر البطل هو الجندي الاسرائيلي. كذلك في شريط الفيديو: الخريطة التي تشكل خلفية تحرك الرجل تحمل ثلاثة اسماء: مصر، اسرائيل وغزة ولا وجود لكلمة فلسطين.
الثاني ان الفيلم لا يتناول في حقيقته لا الفلسطينين ولا الكتائب، وانما هو فيلم عن الجنود الاسرائيليين، يقدمهم كضحايا المسالة كلها: قلقهم، الاسئلة التي يطرحونها، حيرتهم، اضطرابهم، تعابير وجوههم الملتزمة المعذبة الانسانية، وامام هذا العذاب الذي يعيشونه وامام القلق الذي يعانون منه بعد الحرب، يجد المشاهد نفسه متعاطفا معهم، ويجد انهم هم ما يؤثر فيه لا ضحايا المجزرة الذين لا ينقل عنهم اي تعبير انساني.
الثالث ان الفيلم يكرس فكرة تفوق الانسان الاسرائيلي ليس فقط على عدوه الفلسطيني الذي لا نرى منه الا نساءا يصرخن دون اية لقطة قريبة، بل على على مقاتلي الكتائب الذين يظهرون كوحوش بشرية. وفي النهاية يقول الغربي: هؤلاء العرب وهذا ما يفعله بعضهم ببعض.
الرابع يتثمثل في فكرة بعيدة المدى في الوجدان الاسرائيلي. ففولمان بطل الفيلم،كتم هذا العذاب في نفسه طوال هذا الوقت لان احساسه وهو ابن التاسعة عشرة يومها بموازاة ما بين المخيم الفلسطيني ومخيمات الاعتقال النازية عززت احساسه بالرعب، وبالخوف من الذنب. لكن المحلل النفسي يساعده على الخروج من ذلك ويوضح له ان عليه الا يشعر ابدا بعقدة ذنب القاتل لانه لم يفعل شيئا اكثر من انه حمل الضوء الكاشف.
عمل الذاكرة هذا يذكر بدوره بعبارة عالم النفس المشهور فرانز فانون التي تقول: ” ان الذاكرة لا تقودك الا الى حيث تحب ان تذهب ” والذي يقول ايضا ان عمله مرارا مع مجرمين وجلادين كشف له عن ان معظم هؤلاء يريدون علاج الذاكرة كي يبرروا لانفسهم ما فعلوه، او يجدوا له الاعذار، وبالتالي كي يتقبلوا ما فعلوه ويستمروا في فعله. ولهذا نفهم منح الاكاديمية الاسرائيلية للسينما ست مكافات لهذا لفالس مع بشير،، كما نفهم ان الاسرائيليين الذين كانوا يتجمهرون لحضوره هم ايضا الذين ايدوا بنسبة 94 بالمئة الحرب على غزة، بحسب استطلاع اجرته جامعة تل ابيب. ونفهم ايضا لماذا انجز الشريط الاخر الذي يجعل هؤلاء ال94 بالمئة ضحايا في غزة مثلهم مثل الالف شهيد الذين سقطوا على ارضها.