قصتهم وقصتنا

صحيفة الخليج، 19-01-2009

ونداء الى اثرياء الامة.

اساله: لماذا لا تعود الى البلاد وانت تمتلك  الكثير  مما تعطيه فكرا وعلما، بل من ندرة القدرات والكفاءات  التي نحتاج ؟ فيرد علي بان ظروفه  الصحية هي التي تحتجزه هناك، لانه لو عاد لا يستطيع ان يضمن العلاج اللازم لا من حيث الكلفة ولا من حيث النوعية.يضربني كوتر كهربائي على الجرح الذي يدميني، ولا يغفل هو عن ذلك فيقول: يا عزيزتي، اوطاننا اوطان طاردة، رغم اننا نعبدها. وهذه الاخرى  اوطان اغتراب  ليست لنا لكنها تعاملنا كانسان له حقوقه. هل تعتقدين انني لا  اشتاق الى شارع يافطاته مكتوبة بالعربية؟ الى صوت امراة تنادي جارتها او تبادلها طبق الغداء؟ دعك من الامور الكبيرة وفكري بكم التفاصيل لتي تستثير الحنين؟

احار في الجواب، فالحقيقة توجعني وتمزقني: كثيرا ما تحدثنا وكتبنا عن المهاجرين هربا من القمع، وكثيرا ما تحدثنا عن المهاجرين لاجل الحاجة، ولكنا لم ننتبه الى ان الانسان المهدد بالمرض، يعيش القلق المستمر  على توفر امكانية العلاج، مما فاقم المرض نفسه ويعيق فرص الشفاء. اذكر يوم خرجت من علاج السرطان، وسالت الطبيب: هل شفيت؟ فاجابني: هذه امراض مزمنة لا شفاء منها ولكن ذلك لا يعني انه مميتة، المهم ثلاثة اشياء: القلق والتوتر واتباع تعليمات الرقابة والوقاية.  القلق والتوتر! كيف الخلاص منهما على الصعيد العام لاي انسان طبيعي يعيش في بلادنا المنكوبة؟ ولكن اذا لم يكن هناك بد من معاناة العام، فلماذا لا ينعم المرىء على الاقل بالخلاص من القلق والتوتر على فرص العلاج؟ بدلا من ان يجد نفسه امام جرافة تدفعه نحو التدهور وتحول بينه وبين الشفاء، او على الاقل الحياة الطبيعية.

انا بدوري عشت التجربة، وعرفت كم كان اطمئناني الى العلاج في فرنسا عاملا اساسيا في تغلبي على حالة صعبة ومستعصية. كنت في تلك البلاد صدفة، و لقيت فيها علاجي، لكنني وانا اتهيا لتركها الان اسال نفسي: ما لذي يجب ان يقدمه الانسان لوطنه كي يستحق الاطمئنان الى علاجه في حال الم به مرض؟ وهل ستكون لي فرصة مماثلة في بلادي لو  انتكست مرة اخرى ولو بعد سنوات؟

ابوح بذلك لصديقي الذي يعيش ظرفي، ونتساءل: لماذا يؤمن هؤلاء فرصة الراحة والعلاج  لمثقف مثلي  لم يكن يوما الا حربا على كل ما هو ضد امته، اي عليهم في احوال كثيرة، ولماذا لا تلتفت اليه هذه البلاد التي قدم لها كل شيء الا  جر عربة بياع متجول لقيمه وافكاره؟ خسر كل شيء ليدافع عن بلاده: ارضها، انسانها دينها، حضارتها وقيمها. وعند الضرورة وجد نفسه وحيدا الا من كلمة تضامن معنوي. كلمة لها اشد الغلاوة في ساعة الخطر ولكنها لا تشتري علاجا ولا تؤمن مشفى.

صديقي يقول: “هؤلاء خلصوا قصتهم وتفرغوا للامور الاخرى”  لذلك التفتوا الى الجانب الانساني الاجتماعي، فيما يخص مواطنيهم وحتى فيما يخص الاخرين.  واعود لاسال: هل سيكون علينا ن ننتظر حروبا دينية، وعنصرية وعالمية، لنصل الى ما وصل اليه اهل سكندينافيا او فرنسا ( حيث يعيش كل منا )؟

اوليس لدى العالم لعربي ثروات يمكن ان تحمي على الاقل مثقفيه ومناضليه  الذين لم يغرقوا في لجج فساد  ولم يبتزوا من بلادهم  او من الاجنبي على حسابها،  ما يعفيهم الحاجة اليها؟

صحيح اننا عرفنا بعض الحالات التي تنبهت فيها الدولة او اثرياء العرب الى مبدع او مفكر داهمه المرض، كما فعلت سوريا مع سعد اله ونوس، او احد الامراء الخليجيين مع عبد الوهاب المسيري، او منظمة التحرير مع محمود درويش، على سبيل المثال. ولكنها تظل حالات معدودة، لا تغني عن  نظام معين يجعل الفرصة متاحة امام كل من يحتاجها.

اوليس في جوهر تقاليدنا العربية احترام العطاء واحترام الكبير وحفظ الجميل؟

اوليس هؤلاء المبدعون المناضلون  هم من يبني حضارة الامة ويطور منجزها  الثقافي والعلمي والانساني؟ اوليس لهم عليها حق؟

واذا كان  تزايد اعداد الجوائز التي خصصها ورثة اثرياء وامراء عرب، للمواضيع الثقافية والعلمية والابداعية عموما، هو امر يستحق التحية والتقدير، ويشكل عامل تشجيع ومكافاة لمبدعي الامة، فان تخصيص صنايق عربية خاصة  لحالات الامراض المزمنة، وعلى راسها السرطان، بوقفيات معينة، على اسم اشخاص او مؤسسات، تضمن  لهؤلاء فرص العلاج الكريم  والناجع، هو ايضا مكافاة وحق لهؤلاء على اوطانهم والقيمين عليها،كما انه افضل ما يمكن ان يقدم لذكرى من تقام على اسمائهم احياءا كانوا ام امواتا.

نداء نوجهه الى من يمتلكون الاقتدار والمروءة، خاصة في دول الخليج العربي كافة، وبالاخص في دولة الامارات  السباقة في ميادين الجوائز المتعددة، التشجيعي منها والتقديري، والمنح الدراسية المنظمة. وفي دولة  قطر التي  اخذت تلتفت اكثر فاكثر الى التعليم والثقافة، والتي لن يكلفها صندوق كهذا اكثر مما يكلف برنامج من برامج الجزيرة. ومثلهما الى سائر الاثرياء في كافة انحاء العالم العربي.  ولا ندري ما اذا كان تعدد صناديق كهذه واستقلاليتها هو افضل ام ان الافضل هو  التنسيق مع الاتحادات العربية القائمة للكتاب والفنانين والصحفيين.

 

هل يبو غريبا ان يكتب احدنا في موضوع محض اجتاعي ن بينما تجتاح الامة كلها حالة سياسية بامتياز؟

وطني

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون