خبر يبدو بسيطا، بحيث تغفله اكثر الصحف وتعطيه الاخرى موقعا ثانويا صغيرا: ازمة محدودة تنشب بين فرنسا وسوريا بسبب شحنة قمح هي الاخيرة من 150 الف طن تم التوقيع عليها في نيسان الماضي بين
قسم الحبوب في وزارة التجارة السورية وقسم الترويج في شركة ايبي سنتر الفرنسي.
فرنسا وسوريا و لقبان تاريخيان تعكسان الكثير بالنسبة لبلدين متباعدين: نفط فرنسا، هو اللقب الذي يطلق على الزراعة في بلاد الغوليين، واهراء روما، هو اللقب الذي كان يطلق على سهول حوران التي تتوزع الان سوريا والاردن وفلسطين. والفارق ان نفط فرنسا يتنامى ويتدفق ليعطي بلاده مصدر القوة الثاني بعد السلاح النووي، في حين ان سهول حوران تصاب بالقحط لتترك بلادها تتدهور الى اخر سلم الامن الغذائي.
واذا كانت سوريا هي الدولة العربية التي عملت طوال العقود الماضية على تطوير الزراعة، في حين كان العالم العربي بغالبته يتجه الى قرش النفط والخدمات، فان هذا التطوير وتحديدا زراعة القمح اخذت في التراجع بحيث بدات الدولة منذ تموز 2008 في طرح عطاءات لاستيراد القمح.
الغريب في هذا التطور انه ياتي مخالفا للسياق العالمي، حيث ان اجواء النظام العالمي الجديد قد مالت منذ نهاية الثمانينات الى اهمال الزراعة في الكثير من مناطق العالم، غير ان الازمة الاقتصادية العالمية التي بدات عام 2008، قد افرزت اعادة نظر في كثير من الامور وكان اهمها العودة الى الزراعة. سياق تبدو الدولتان المعنيتان خارجه وعكس سيره، ففرنسا لم تهمل يوما اعتمادها على الزراعة، وسوريا كانت تهتم حين لم يكن الاخرون وها هي تتراجع حين يتقدم الاخرون. وتلتحق بالصف العربي الذي فقد، كله امنه الغذائي وبالتالي فقد العنصر الاساسي في حرية قراره. فهل هذه هي سياسة الانفتاح وما تهيء به سوريا نفسها لمرحلة السلام التي تحبكها تركيا؟
لست خبيرة اقتصاد ولا زراعة، ولكن الامر لا يحتاج لذلك ليدرك المرء ان دولة لا تستطيع تامين الرغيف لسكانها، لن يكون بامكانها، باي حال ان تكون حرة القرار، ولطالما سمعنا اقوالا من مسؤولين عرب- خارج – التسجيل- بان لا قرار ولا حرية للمديون، وبان مصر، على سبيل المثال، معذورة في هذا الموقف او ذاك لانها ان تحدت واشنطن لا تملك اطعام ملايينها الثمانين الا لاسبوع واحد. وفي ظواهر بسيطة جدا من الحياة اليومية، طالما راينا ونحن نتسوق في محل خضار في الاردن مثلا عبارة: ” جزر استرالي ” و “تفاح اميركي او تشيلي ” واذا ما تواجد التفاح اللبناني او المحلي اشار لك البائع الى الزاوية الجانبية التي يعزله فيها بخجل وازدراء وكانه يعتذر لك عنه، نظرة ستنتقل اليك اذا ما حملت كيسك واخترت ان تعبىء منه. هذا عدا عن قضية الخضار التي تصدرها لنا اسرائيل من ارض هي امتداد امتار قليلة لارضنا.
هذا النقص وهذا الاستيراد هو امر مبرر لدول كدول الخليج العربي، لسببين: المناخ، وامتلاك مصدر القوة الاخر والاعظم، النفط. اما بالنسبة لبلدانم لم تكن مصادر قوتها تاريخيا الا في منتجها الزراعي: بلاد مكونة جغرافيا من جبال وسهول، اي من زراعات شجرية وخضار وبقول، وديموغرافيا من بدو وفلاحين، اي من ماشية ومنتوج زراعي، فما هو مبرر تركها لمصادر ثرواتها وامنها ووقوفها متسولة او مشترية على ابواب دكاكين الاخرين؟ ليطعمها هؤلاء بالقطارة ويستنزفوا مالها، ويتحكموا بقرارها؟