لتفهم الآخر، ضع نفسك مكانه. ولتفهم السياسة اقرأ المصالح.
كفانا حديثا عن النفوذ الإيراني، والان عن التركي في المنطقة العربية، ولنسأل انفسنا : هل كنا نتبنى المسلك نفسه لو كنا مسؤولين في هذه الدولة او تلك ؟
وإذا أردنا التعمق اكثر فلنعد الى قاعدة اخرى هي أن التاريخ هو دائما متحرك غير أن الجغرافيا هي دائما ثابتة، ومن هنا نشأ مصطلح الجيوبوليتيك. وبناءا عليه فإن المشرق العربي يعيش منذ فجر التاريخ بين كتلتين جغرافيتين هما بلاد فارس وبلاد الترك التي كانت يوما بيزنطة. وكلما كان الاول يضعف كانت القوتان تتصارعان على النفوذ فيه. الم تتحقق دولة محمد بعد معركتين حاسمتين : اليرموك والقادسية ؟ بعد ان كان صراع البيزنطيين والساسانيين سيد الساحة ؟
واذا كان الإسلام قد عاد فجعل بين الكتل الثلاث قاسما مشتركا كبيرا وأساسيا ، فان ذلك لا يبدل شيئا من طبيعة المصالح ، بل يجعل أمامها خيارا جديدا : إما ان تضطلع كل منها بدورها على ساحتها، وتتمكن بالتالي من عقد تحالف إقليمي قوي يؤمن مصالح الجميع ، وإما ان تصطرع لحساب قوى أخرى او سياسات ضيقة ، وإما أن يستقيل طرف من ساحته، فينبري الإثنان الآخران الى ملئها ، والطبيعة لا تحتمل الفراغ .
نحن العرب ترجلنا عن أحصنتنا، وصرفناها الى العراء، فنزلت اليها كل خيول العالم ومنها الخيول الفارسية والتركية، لا لتحل ضيفة بل لتقتطع كل حصتها. وليس لنا أن نلوم الآخرين بل أنفسنا .
ولعله من المفيد أن نسأل لماذا لم تبرز هذه المعادلة إلا بعد احتلال العراق ، الذي لم يأت بدوره إلا بعد احتلال غير مباشر للخليج، واحتلال إرادة ولقمة وقرار مصر؟
لم يعد للعالم العربي مركز، ولا ثقل، ولا استقلال، وتحول إلى ساحة يهدد منها الآخرون الآخرين . فلا يكون أمام المهدد إلا أن يبني خطوطه الدفاعية على أرضنا . ولا يكون أمام المقابل إلا وأن يجد فرصة سانحة لتدعيم حجمه إزاء العالم بنا .
هكذا تفسر وببساطة السياسة الإيرانية التركية في العالم العربي . احتل العراق ، وإيران هي الهدف الثاني على القائمة الأميركية الصهيونية، اذن فأي زعيم ايراني لا يفكر بتحويل الوضع في العراق إلى ورقة تمنع عن بلاده الخطر، هو زعيم غبي او خائن . أما اذا امتنع الأميركيون عن المغامرة بفعل وضعهم في العراق ، فإن اسرائيل هي التي ستتكفل بضربة على غرار اوزيراك ، إذن لا بد لأي مخطط ايراني أن يفكر بتدعيم قوة حليفة تهدد إسرائيل من على حدودها. وإذا كانت المقارنة لا تجوز بين تحالف حزب الله – ايران ، والوجود الايراني في العراق، فذاك يعود لطبيعة الحليفين، لأن قيادة حزب الله فعلا قد تعاملت مع الأمر وكأنها دولة : تريدون منا أن نحميكم من إسرائيل، ونحن نريد أيضا أن تساعدونا على تحرير أرضنا وعلى حماية بلدنا من إسرائيل، ولكن دون أن يكون ذلك ضد أي فريق في الداخل الوطني، ولا على حساب الدولة .
في مقابل ذلك، كان لا بد لتركيا أن تفكر بتدعيم وضعها كقوة اقليمية ، خاصة لخدمة صورتها أمام اوروبا ووضعها داخل الاطلسي .
وإذا كان المخطط الأميركي الصهيوني قد وضع في رأس بنوده تفجير حساسيات مذهبية سنية – شيعية ، وتفجيرها لخدمة وضعه في العراق، فان استجابة العرب الغبية لذلك ، لم تكن إلا لتشجع ايران الشيعية وتركيا السنية على الإفادة من هاتين الورقتين .
واليوم إذ نقف أمام المجزرة السوريالية في غزة فإننا لا نجد الساحة العربية إلا وقد فرغت أكثر ، ونجد الاستقالة الرسمية العربية تترسخ ، في حين تبقى إيران وتركيا فاعلتين. وإذا أردنا أن نكون موضوعيين فإننا نجبر على القول أن فعلهما السياسي أفضل بكثير من حركة الأنظمة العربية ، وربما يكون حراكهما الشعبي أيضا . اعتراف يؤدي إلى أنه كان من الممكن للعرب أن يقيموا تحالفا اقليميا محترما مع جارتيهما المسلمتين لو كانوا هم موجودين بالفعل على خارطة الفعل السياسي ، أما وقد ترجلوا خانعين فليس لهم الا ان تتقاذفهم الحوافر.