شيزوفرينيا الجزيرتين

صحيفة الشروق، 04-01-2009

هذا الصباح قصدت التجول على وسائل الاعلام العالمية، بدءا من المحطات الفضائية: سي ان ان، بي بي سي، روسيا توداي، فرنسا 24، ت اف 5 واخيرا الجزيرة انترناشيونال.

المفاجاة المذهلة كانت في هذه الاخيرة التي تبدو بعض برامجها وكانها  وسيلة اعلام صهيونية، لكأنها نقيض الجزيرة بالعربية التي نفخر بانتمائها،

بالامس كتبت مستعيدة تعليقا لديبلوماسي غربي قال لي: اذا كان لم يعد لديكم مركز سياسي للعالم العربي فان لديكم مركز اعلامي هو قناة الجزيرة. كنت اتابع واياه محطة الجزيرة العربية لمدة ساعتين ( وهو يعرف العربية )، وكنا نعلق على ان هذه المحطة هي الصوت الاعلامي العربي الاقوى وان كان عيبها في تغطية المعركة انها تحبط اكثر مما تشحن المعنويات. طبيعي ان المطلوب ليس الكذب على طريقة اعلام 1967، ولكن الحرب النفسية والتعبئة المعنوية هما جزء من معارك الشعوب منذ بداية التاريخ، ولا يمكن لاحد ان يفهم كيف تعطي محطة عربية ساعة لتسيفي ليفني، وخمس دقائق لحسن نصرالله، القائد المقاوم الذي اصبح واضحا انه اخذ مهمة الحرب النفسية والتعبئة المعنوية على عاتقه، باقتدار استثنائي وجراة استثنائية، وكيف يقطع كلام المطران الفلسطيني المناضل عطا الله حنا، بما لمداخلته من قيمة استثنائية: اولا لاثبات ان المعركة هي معركة شعب وليست معركة تنظيم، وان المواجهة هي بين عدو احادي عنصري  وشعب تعددي حضاري غير عنصري. ولا يجهلن احد ما لهذه الابعاد التعددية من تاثير سواء في العالم العربي او في العالم الغربي. ملاحظات اوردناها بمحبة وحرص على اداء افضل وافعل للاعلام العربي  الذي ننتمي اليه.

اما اليوم، وانا ارى الجزيرة العالمية فاقول:  اية شيزوفرينيا هي هذه التي اراها امامي، واية عملية تمويه هي ما يراه  دون شك جميع الذين لا يعرفون العربية ويريدون مشاهدة  محطة فضائية عربية؟!

صحيح ان ادارة الجزيرة الدولية هي غير الادارة العربية، وصحيح ان الخطاب الموجه الى الغرب يجب ان يحتلف احيانا عن الخطاب الموجه الى الساحة المحلية. وصحيح ان المذيع الذي يتحداني حضوره على الشاشة لمدة ساعة كاملة، هو  اجنبي بامتياز ( هذا ان لم اقل ان ملامحه واسماء ضيوفه تدل على شيء اخر ). ولكن اوليست قطر نفسها، قطر الحكومة، هي من يمول المحطتين عربية وانكليزية؟ اوليس لهما مجلس ادارة مشترك؟ اوليست لها من رقابة على ما يبث باللغة الاجنبية؟

ثم هل يعني الذكاء في الخطاب الموجه الى الغرب، ان يحتل خبر الحرب ساعة كاملة لا يستضيف فيها المذيع الاشقر الاحمر الا شخصيات اسرائيلية، ومعهم شخصية اميركية واحدة تحمل اسما لا جدال حول هويته ولا حول خطابه؟ لماذا لم يستقبل المذيع المحترم شخصية عربية واحدة او مسؤولا فلسطينيا من حماس، واخر من جهة فلسطينية اخرى، يقدمان وجهة النظر المقابلة؟ اين ذهبت حجة الراي والراي الاخر، والموضوعية الاعلامية التي ارهقتنا بها محطتنا العربية لتبرير استضافة الشخصيات الاسرائيلية على الشاشة العربية، ولاجبارنا مكرهين، على مشاهدة المجرم باراك، ورجال الحرب الاسرائيليين يرشون علينا حقدهم ونارهم، متوعدين مسعورين، بل وعلى رؤية مسؤول امني يقول انه سيضع الموسيقى ويرقص احتفالا بمجزرة غزة؟ لماذا لم ينقل هؤلاء انفسهم الى الشاشة الانكليزية؟

هل تعني الموضوعية  الا تكون الصور التي تحتل خلفية الخبر – وعلى مدى ساعة – صور لا يتكرر فيها الا مشهد عادي لبعض المباني المدمرة، دمارا يمكن ان يحل في اي اشتباك عادي، وكان الصورة تؤكد صحة ما  يؤكده  جميع المتحدثين على ان الغارات لم تتستهدف الا مراكز للقوى الامنية التابعة ( لخماس ) ولننتبه للخاء!

اين غاب البشر، الضحايا: قتلى وجرحى،  اشلاء وصارخين ومنازعين؟ اين غابت النساء المفجوعات والاطفال المرعوبون والممزقون؟ اين غابت كل الصور التي قصفتنا بها الجزيرة العربية طوال الايام الماضية وعلى امتداد اربع وعشرين ساعة ؟ كيف لم تتسلل منها صورة واحدة، واحدة،  الى الجزيرة الانكليزية ؟

اين غابت صور المظاهرات العربية والدولية، بحيث لم يظهر منها الا مظاهرة في ايران واخرى باعلام حزب الله الصفراء، مع ما يعنيه ذلك بالنسبة للغرب: ( حماس مدعومة من حزب الله الارهابي، ومن ايران التي يهددكم برنامجها النووي، اذن لاسرائيل  الحق في الدفاع عن نفسها )، رسالة لا تخفى على اي شخص يفهم ابجديات الرسالة التي توجهها الصورة في الاعلام، وينقلها المسكوت عنه الذي هو اهم بكثير من المقال.

وحتى عندما ننتقل الى المراسلين، نجدنا امام اثنين: واحدة من اسرائيل، ووراءها ناس يتحركون ذهابا وايابا وحديث عن اوضاع المستوطنات المهددة من حولها، وعن غزة التي  تراها من بعيد، بعيد، بحيث لا يبدو منها شيئا. اما المراسل الثاني فهو من العريش من مصر، والصورة والتقرير هي فقط عن مستشفى مصري يستقبل الجرحى اللفلسطينيين. ومن حوله الحياة اكثر من طبيعية. اما الصور الاخرى فواحدة تتكرر عشرات المرات لشحن مواد اغاثة، ولتنزيلها في اسرائيل.

واخيرا ناتي الى العبارات المتحركة اسفل الشاشة: ثلاث او اربع عبارات تتكرر على امتداد الساعة: اربعة ضحايا اسرائيليين بصورايخ حماس، حماس تفقد 340 قتيل في المواجهات مع اسرائيل، البيت الابيض يقول….، ليفني تقول… باراك يقول… وانتهى الامر!!

لو كانت هذه السياسة الاعلامية هي سياسة الجزيرة العربية لقلنا: حسنا هذا هو الموقف المتبنى من قبل ادارتها ومن قبل قطر . ولو كان هناك تمايز طفيف او حتى معقول بين القناتين، لقلنا: حسنا انها اختلافات بين فريق ادارتين مختلفتين. ولكننا امام خطابين نقيضين، ولا يقولن احد  انها ضرورات التوجه الى جمهور اجنبي، سواء كان هذا الجمهور اجنبيا بالكامل او من المهاجرين العرب الذين لا يفهمون العربية، لان الضرورات تصبح هنا اكثر الحاحا بنقل الصورة الحقيقة لما يجري من مجزرة، و لتنوير لراي العام، اقناعه، وتجييشه وتعبئته معنويا ليشكل قوة ضغط على الساحات الدولية. والا فما الفائدة من انشاء محطة باللغة الانكليزية، وبالمال العربي،  اذا كانت سياستها ستكون اسوأ من السي ان ان الاميركية او من البي بي سي الانكليزية او من الفرنسية. اقول هذا دون مبالغة اطلاقا بناءا على ثلاث ساعات قضيتها في مراقبة المحطات الثلاث المذكورة . واضيف ان سوءها يتضاعف عندما تكون شهادتها لدى الاجنبي من باب ” شهد شاهد من اهله “.

وبناءا على خبرة ثلاثة عقود قضيتها كاعلامية وكناشطة سياسية متنقلة بين الاعلام العربي وجمهوره والاعلام الغربي وجمهوره  ومؤسساته البحثية والستراتيجية.

وبناءا على هذا كله اقول: ان في يدنا كمّا لاحدّ له من العناصر التي تجعلنا نربح الحرب الاعلامية على مستوى الداخل والخارج، وتجعلنا نخوض الحرب السيكولوجية التي شكلت دائما حيزا رئيسيا في المعارك منذ ان اطر نظرياتها الاميركيون في الحرب العالمية الاولى، وطوروها في الثانية، وكان اليهود دائما من اكثر من ادرك اهميتها، وبرعوا فيها ووظفوها لصالح دولتهم المغتصبة. واذا كان الفلسطيني قد استطاع باقلام دمه وصوت جراحه ان يفرض على العالم حقائق قضيته، فان علينا في وسائل الاعلام العربية الا نقصر في توظيف هذه الالام.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون