ليست غزة، لا ولا هي حماس، هدف المحرقة الاسرائيلية الاخيرة. وانما هي، معنويا، روح المقاومة، وماديا تصفية جيوب المقاومة التي ما تزال تعاند على الساحة العربية. فعدونا، اسرائيلي او اميركي، لا يتعامل معنا مرة واحدة ككيانات منفصلة وانما كاجزاء محدة من كل واحد، اجزاء تتم معالجتها والتعامل معها خطوة خطوة على الطريقة الكيسنجرية التي لا تقتصر على التعامل السياسي.
قبل يوم واحد من العدوان على غزة، نشرت صحيفة لو فيغارو الفرنسية حديثا لبنيامين نتنياهو، بدا وكانه حديث عن مرحلة ما بعد تصفية المقاومة في غزة. حيث تحدث عن سلام اقتصادي يبدا من الضفة الغربية ويسبق اي حديث عن اللاجئين والقدس.فيما يعتبر تبن لنظرية الشرق الاوسط البيريزي، خاصة وان زعيم اليمين يعترف بان الخطا الاكبر الذي ارتكبه عام 1996 كان عدم ضم شيمون بيريز الى حكومته انذاك. اما التطبيق العملي لهذا الطرح فهو اقامة استثمارات اسرائيلية، وغير اسرائيلية في اراضي الضفة وبالشراكة مع السلطة الفلسطينية، بحيث يتم من خلالها تحقيق عدة اهداف من اهمها: اولا مد جسر جيد لعملية التهويد الاقتصادي ( وهي عملية قد قطعت اشواطا مهمة، لكن تركيزها في الضفة يعطيها انطلاقة اكبر واساسا امتن ). ثانيا تقوية السلطة الفلسطينية القائمة وتحديدا الاجنحة الاكثر تاييدا لاسرائيل فيها، والاكثر فسادا اقتصاديا، وجعلها بذلك اكثر جاذبية للجمهور الشعبي الفلسطيني، ثالثا، تهيئة منطقة الضفة وما حولها لاستقبال من يتقرر السماح لهم بالعودة من الفلسطينيين، وذلك ما يؤكده قول اخر لنتنياهو في الحديث نفسه، بان ثمة مناطق كثيرة حول الضفة فارغة وقادرة على استيعاب اعداد كبيرة من الناس. وفي سبيل ذلك كله لا يمانع الرئيس الموعود بان يكون للسلطة جيش وسلطة على الجو والبر ولكن تحت سقف محدد بوضوح وهو سقف مكافحة الارهاب، اي مكافحة كل قوى المقاومة الفلسطينية. وذلك ما لا يصبح ممكنا عمليا الا بعد القضاء على ما سماه نتنياهو منذ عام 1995 ” جيب عزة “، مما يفسر هذا الاصرار الحاسم على تحجيم مراكز الخطر، او حتى مراكز المقاومة التي قد لاتشكل خطرا. وصولا الى تصفية نهائية للصراع، عبر القضاء على اخر جيوب المقاومة فيه.
واذا ما تذكرنا بان نتنياهو نفسه هو الذي اطر وفصل نظريا، منذ عام 1994 خطة حصر المقاومة الفلسطينية في غزة ومن ثم تصفيتها هناك، وذلك في كتابه المهم الذي حمل عنوانا مزدوجا : “امن وسلام – استئصال الارهاب” واعتبر برنامجه الانتخابي الذي وصل على اساسه الى رئاسة الوزراء.
من هنا فان ثمة من يقول ان باراك وليفني قد حاولا خطف هذا الانجاز من نتياهو لدواع انتخابية، لكن هذا التحليل يبدو عند التمحيص سطحيا وانيا، ويقع خارج دائرة ما يمكن ان يشكل لب اهتمامنا نحن. وذلك لسبب بسيط وهو انه لا يجوز ان يهمنا ما اذا كان ذبح المقاومة الفلسطينية يتم على يد باراك او على يد نتياهو، المهم انها ستراتيجية اسرائيلية استئصالية ( كما يحمل عنوان الكتاب )، لا يحيد عنها لا العمل ولا الليكود. ستراتيجية تضع نصب عينيها هدفا نهائيا هو القضاء على عناصر وبؤر المقاومة اين تواجدت على الساحة العربية، ومن هنا تاتي حرب غزة استمرارا لحرب لبنان، ولحرب العراق، ولسائر البؤر الاصغر والاقل اهمية. ولاجل تحقيق هذا الهدف الستراتيجي تنتقل اسرائيل وعملاؤها من تكتيك الى اخر ومن ساحة جغرافية الى اخرى.
لقد ضمنت الصهيونية العالمية، وعبر الولايات المتحدة تواطؤ الانظمة العربية التي جمدها الخوف على نفسها، خوف من الخارج وخوف من شعوبها. وتمكنت ايضا من تجنيد قسم لا باس به من الابواق المرتبطة منفعيا، اما بالانظمة نفسها بحيث يكون بقاؤها من بقائها، واما بالغرب والاميركي، ارتباطا تجاوز المنفعي احيانا الى مسالة غسل دماغ كامل. واشتدت هذه الحالة المرضية مع احتلال العراق، وما تلاه من تصور ان الامور قد انتهت في المنطقة، وانها استتبت في العالم لارادة واحدة هي ارادة الامبراطورية الاحادية الاميركية.
لكن ظهور المقاومة العراقية وتطورها، وتمكن المقاومة اللبنانية من تحقيق ما حققته، واكتساح حماس بخيارها المقاوم صناديق الاقتراع الفلسطينية، جعل اسرائيل وما وراءها من غرب اميركي وبعض اوروبي، تعيد حساباتها وتدرك ان انتصاراتها لن تكون الا مؤقتة اذا لم يتم القضاء على بؤر الماقومة المتبقية. وانه اذا اتيح لهذه البؤر ان تبقى، وان تنمو وتتطور ومن ثم تتحد في شبكة واحدة فستنقلب الامور راسا على عقب، على المدى البعيد. خاصة وانه لا بد للشعوب ان تستفيق من ( بهسة ) الصدمة وتساند بغالبيتها هذا الخيار.
لذا تتكرر وتتنوع عمليات الخنق والحصار، ومحاولات التحييد والتجميد، وعمليات العدوان الكاسح، الذي فشل في لبنان، لكن رهانه الحقيقي في فلسطين.
قبل العدوان بيوم قال نتنياهو للصحيفة الفرنسية: لا يجوز ان نسمح لاي من التنظيمات المتطرفة بالوصول الى الحكم والسيطرة على قطاعات او دول، ولذا فان معركة غزة هي معركة الانتخابات الفلسطينية لا الاسرائيلية، خاصة مع اقتراب نهاية ولاية ابو مازن. وهي معركة الانتخابات اللبنانية التي ستاتي بعد اشهر، وهي معركة مستقبل العلاقة السورية الفلسطينية الاسرائيلية، وهي معركة المقاومة العراقية قبل الاستفتاء على الاتفاقية الامنية…هي بالنتيجة معركة القرار المصيري العربي: استسلام وتبعية ام مقاومة.