ديغول في عيون الصحافة العربية في المشرق العربي: (لبنان – مصر – الاردن ) 1958 – 1968
قدمت هذه الدراسة في المؤتمر العلمي لجامعة سوربون ابو ظبي حول «السياسة العربية لشارل ديغول»
ونشرت بالعربية والفرنسية في كتاب مشترك ضم اعمال المؤتمر اصدرته السوربون بالتعاون مع جريدة النهار في لبنان
حياة الحويك عطية
10-12-2008
في كتابه “صرخة الغارغوي” يتحدث دومينيك دو فيللوبان عن اولئك الذين يسميهم “رجال العبور”، ولا شك ان الصورة الاولى في ذهن المفكر الفرنسي لرجل العبور هذا هي صورة الجنرال ديغول. وفي مقال في صحيفة النهار اللبنانية في بداية العام ستين يكتب ميشال ابو جودة واصفا ديغول بانه “الرجل الذي بعث امته من وسط الاحتلال ودفعها نحو النصر ثم عاد بعد ثلاثة عشر عاما يبعثها من جديد من وسط الانحلال السياسي ويدفعها نحو النهضة” غير ان ابو جودة لا يسوق ذلك الا ليردف، بان “على ديغول ان يتغلب بها على نفسها ويضعها بكل حزم امام الاختيار”والمقصود بهذا الاختيار هو قضية الجزائر، مستشهدا بعابرة اندريه مالرو”اما ان تستعيد فرنسا رسالتها العظيمة وتفي بما تعد به ويقف وقف اطلافق النار في الجزائر ليدرك من في الناحية الاخرى ان كلمة ديغول هي كلمة فرنسا او اننا نفشل وعلينا عندها ان نتحمل سوء المصير”.
النظرة هي اذن نفسها في عين المفكرين الفرنسيين وفي عين الصحافي اللبناني، لكنها مشروطة لدى الثاني، بانتهاج المبادىء نفسها ازاء قضية عربية . والقضايا العربية المركزية في تلك الفترة هي قضية فلسطين التي ما تزال كذلك حتى الان وما استتبع قضية فلسطين من صراع عربي – اسرائيلي، وقضية الجزائر التي وجدت حلها عام 1963.
واذا كان الاهتمام هو هو في مشرق العالم العربي ومغربه، فان ضرورات البحث اقتضت ان تنحصر هذه الورقة بدائرة الصحافة العربية في المشرق العربي، وبحيز زمني يمتد من عام 1958 الى 1968. كما اقتضت اختيار النماذج من صحيفة الاهرام المصرية، النهار اللبنانية، وصحيفتي الدفاع والدستور الاردنيتين الفلسطينيتين. ذاك ان فترة السنوات العشر هذه هي اولا الفترة الممتدة من وصول الجنرال الى الحكم حتى استقالته. اما اختيار الصحف فجاء على اساس توزيعها القطري (الدول الثلاث) طبيعتها (ملكية عامة او خاصة) خصوصيتها التاريخية وموقفها السياسي.
الاهرام هي صحيفة الدولة، دولة الجمهورية العربية المتحدة وجمال عبد الناصر، النهار هي الصحيفة اللبنانية الاولى، الخاصة مئة في المئة والمصنفة اقرب الى اليمين، اما الصحف الاردنية – الفلسطينية فتمثل خاصية مهمة تنبع من تاريخها: حيث صدرت الدفاع في يافا عام 1930، وانتقلت”لاجئة” الى القاهرة عام 1948، لتعود الى القدس بعد عامين وتبقى فيها حتى احتلال 1967 حيث اضطرت الى الانتقال”نازحة” الى عمان وظلت صحيفة ذات ملكية خاصة مئة بالمئة وفلسطينية. اما الدستور فهي نتاج لدمج صحيفتي: “فلسطين” و “المنار”. فلسطين التي اسست في القدس عام 1914وعرفت بانها صحيفة مسيحية ، والمنار التي كانت تعرف بانها صحيفة الاخوان المسلمين، دمج فرضه رئيس الوزراء الاردني وصفي التل بعد ان امم الصحف الثلاث ( المنار ، الجهاد وفلسطين) وفرض ان تكون للحكومة حصة تساوي %49 من الاسهم، وبذلك اصبحت الدستور خليطا من حكومي ورسمي وتخضع بالتالي لسلطة الحكومة.
كل ذلك في مرحلة الحرب الباردة، وانحسار الكولونيالية القديمة، لصالح حركات تحرير تجد نفسها اقرب الى الاتحاد السوفييتي او دول يمينية تحل فيها الولايات المتحدة محل بريطانيا وفرنسا، من مثل لبنان او الاردن. حيث تقود احداث 1958 في الاول الى نزول الاسطول السادس في مياه بيروت، في حين يطرد الضباط الانكليز من الاردن تحت شعار تعريب الجيش. وكل ذلك بعد عدوان ال1956 الذي شكل نقطة الانطلاق في هذه المعادلة الدولية الجديدة، من حيث حلول نفوذ الولايات المتحدة الاميركية محل النفوذ الغربي القديم، في المنطقة العربية، في مواجهة النفوذ السوفييتي. كما شكل ارثا ثقيلا لشارل ديغول وفرنسا.
وفي هذه المعادلة يبرز الجنرال ديغول على الساحة الدولية، زعيما مناديا بقوة ثالثة، اوروبية موحدة بقيادة فرنسا، حليفة للولايات المتحدة ولكنها ليست تابعا لها. فيما تكرس بمبدا الاستقلالية، الذي لم يكن ليروق لقطبي الحرب الباردة. ولم يكن لهذه القوة الثالثة ان تتسلح جيوبوليتيكيا الا بمجالها الحيوي المتوسطي والمشرقي لتغذي وزنها كقوة ثالثة تختلف عن كتلة عدم الانحياز، لاسباب كثيرة منها علاقة ديغول بتيتو وشرق اوروبا . ومنها كون حركة عدم الانحياز حليفا للاتحاد السوفييتي. غير ان ناصر والعرب المصطفين معه كانوا يبحثون بدورهم، وبصدق، عن عامل توازن بين القوتين العظميين مما يجعل ديغول اقرب الى الفصيل العربي ضمن الحركة، خاصة المشرقي والمتوسطي، الذي كان يبحث بصدق عن شكل من اشكال التوازن.
عربيا ينقسم العالم العربي الى معسكرين: مد قومي، حركات تحرير، عدالة اجتماعية، بكل ما يلهب الوجدان الشعبي، من جهة وبالمقابل، في الجهة الاخرى، مونارشيهات اواتجاهات غير عروبية تجد نفسها ملتصقة بالمعسكر الغربي رغم تناقضها معه اجتماعيا. وبالتالي يحتدم الصراع على قيادة العالم العربي بين المعسكرين ومن وراء كل منهما احد قطبي الحرب الباردة. ولكن دون ان يتجرا هذا الصراع على تعدي الخطوط الحمراء المتعلقة بالقضايا الكبرى، حتى ولو اختلفت مقارباتها. فيما يجول فيلم جميلة بوحيرد المدن العربية وتخلع النساء اساورهن للتبرع للثورة الجزائرية، ويدخل صوت العرب واذاعة القاهرة كل بيت مناديا باسم فلسطين وضد الاستعمار: يا اخي العربي.
الجزائر ولبنان في سياق الحرب الباردة
في عام 1958 اندلعت الحرب الاهلية في لبنان، ظاهرها مسالة التجديد للرئيس كميل شمعون، وخلفيتها الصراع العربي – العربي، والاممي المشار اليهما انفا . والصحافة اللبنانية بدورها تنقسم بين المعسكرين. النهار تندرج في الخط الاميركي، رغم فرانكوفونية معظم العاملين فيها . ويلاحظ انها تعطي اهمية خاصة لاخبار فرنسا ، فحتى عندما لا تعطيها عنوان الصفحة الاولى ، كثيرا ما تعطيها الصورة الرئيسية على هذه الصفحة. ولا ندري اهو من باب الاهتمام بالجزائر نفسها ام من باب مقتضيات السياسة الاميركية في تلك الفترة؟ المانشيت هي في الغالب عن لبنان دون ان تغيب صورة الجنرال ديغول واخبار التطورات المهمة المتعلقة به في تلك المرحلة كما في اعداد 5 1ايار و 3 – 4 – 6 – حزيران. واعتقد ان الصفحة الاولى لعدد 15 ايار هي نموذج يستحق التحليل بذاته: المانشيت: “بيروت قنابل متفرقة”، تحتها “ايزنهاور يتابع احداث لبنان ساعة فساعة”، تحتها، “القاهرة ترفض الاحتجاج والعواصم الغربية تؤيد الاتهامات” وفي خبر اسفل اليمين يتكرر عنوان “الدول الغربية مستعدة لتاييد شكوى لبنانية”، وضمن هذا الخبر خبرين اخرين مؤطرين: “الاسطول السادس يبقى في المتوسط ويجري مناورات في منتصف البحر” و “الصين الوطنية تتهم الشيوعية”دون ان يمنع ذلك من ان تتوسط الصفحة صورة الجنرال ماسو وعنوان: “الاشتراكيون يشاركون في الحكم وماسو يحرص على العلاقة مع العاصمة” واشارة الى التفاصيل في الصفحتين 7و 8 ، فيما يلفت النظر بداية الخبر الرئيسي كما يلي: واشنطن: رفض الرئيس ايزنهاور الادلاء بكلمة واحدة عما دعاه الاوضاع الخطيرة في لبنان والجزائر… وقال الرئيس انه يتابع التطورات في لبنان والجزائر ساعة بساعة”.
وتستمر اخبار لبنان متلازمة مع اخبار الجزائر في الاعداد الاخرى المعنونة كلها عن شكوى لبنان ضد مصر ومن ثم فشل الجامعة العربية لحل المشكلة، ومن ثم دعوى لبنان للتدخل الخارجي، فيما يبدو وكانه استشراف او تمهيد لمجيء الاسطول السادس الاميركي، حيث نجد في افتتاحية غسان التويني ليوم 15 ايار 58 صرخة النداء الاخير: “افلا يفهم المسؤولون اننا نسير الى الكارثة؟ الا يفهمون اننا نسلم البلد الى الاجنبي، شرقا اذا انتصر هؤلاء، وغربا اذا انتصر اولئك؟”
واذ يتوج عدد 7 – 1 – 1961 بخبر فشل مؤتمر الدار البيضاء، فان صياغة الخبر تبرز كون ذلك فشلا لمصر ولعبد الناصر. ومن ناحية ثانية تتجاهل النهار مطالبات تونس بمنطقة بنزرت التي اقتطعتها فرنسا من ارض تونس والحقتها بالجزائر عندما كانت الاخيرة فرنسية في حين تبرز الاهرام هذه القضية ولكن باعتبار ان تونس تطالب بحصة من ارض الجزائر وان الجنرال ديغول يرفض تجزئة البلاد قبل منحها الاستقلال. وذلك ما تفسره طبيعة العلاقة بين بورقيبة والسياسة الناصرية.
يعود ديغول الى احتلال المقال الرئيسي لميشال ابو جوده في شباط 1962تحت عنوان: “ديغول يبدا حملته الجزائرية”
اسم واحد يتردد عند ذكر هذه الحقبة الدامية: الجنرال ديغول “واذا كان العالم كله يرقب ديغول من بعيد ليرى كيف سيحقق المعجزة فان شمال افريقيا يرقبه من قريب ليمد له يده من جديد على اساس جديد” وبعد ان يورد ابو جوده ما كتبته لو موند حول خطوات حاسمة يتخذها الجنرال ويجعل الامة تذكيها في استفتاء شعبي يتساءل عما اذا كان لدى فرنسا ديغول اخر اذا ما فشلت الجنرال ديغول؟
بعد شهرين يعود ابوجودة الى الموضوع في 22 نيسان – 1961، مع انقلاب الجنرالات الذي احتلت اخباره وصوره ( صور منفذيه الاربعة وصورة ديغول مع دوبريه )، الصفحة الاولى كاملة باستثناء خبرين صغيرين رغم ان احدهما يعتبر بالغ الخطورة على الصعيد الداخلي اللبناني، يقول ابو جوده:
“تحت خوذة كل ضابط فرنسي منذ سنة 1940 شخصيتان: شخصية المارشال بيتتان من جهة وشخصية الجنرال ديغول من جهة اخرى شخصية الضابط الحكيم العاقل وشخصية الضابط الوطني المتطرف، ومنذ تحول الجنرال بيتان الى متهم بوطنيته وتحول الجنرال ديغول الى بطل وطني اصبح هاجس الضباط، لا الانتصارات العسكرية بل الوطنية الخيانة، اي السياسة… ضحايا مجالس الوزراء ركبوا رؤوسهم امس وقلبوا الوضع في الجزائر العاصمة محاولين جعل ديغول بيتان اخر، ليصبحوا هم الابطال الوطنيين ….الذين يفكرون بانتصار الجنرالات ، هم الذين يفكرون بعودة التاريخ الى الوراء… ديغول رفيق التاريخ لن يتراجع وقد اعلن امس انه انه لن يقاوم التاريخ”.
تاتي ايفيان، ولا يمكن اغفالها لكن الخبر المتعلق بسوريا يزيحها الى الصف الثاني في عددي 1-3 و 7-3-1962 ومثلها سائر تطورات المفاوضات الجزائرية، الى ان تعود فرنسا الى المانشبت مع استقلال الجزائر في عدد 1-7-1962 مع ملاحظة ان العنوان يقول: “اليوم تعود الجزائر جزائرية” لا “عربية” كما تقول الصحافة العربية الاخرى التي احتفلت بالحدث كحدث العصر القومي.
اما في الاهرام فان اهتماما خاصا يكرس لقضية الجزائر، بما قد يبدو متماثلا مع النهار في الظاهر لكن الدوافع هي لا بد مختلفة، ففي 21 نيسان 1958 تصدر الأهرام بمانشيت مزدوج عن تحقيق خاص لمراسلها في باريس: “ديجول رجل الساعة في فرنسا – فرنسا تتطلع إلى رجل ينقذها من ورطتها في الجزائر” التحقيق يتحدث عن تطلعات ديغول لتغيير الدستور بما يوسع صلاحيات رئيس الجمهورية و يجمع معها صلاحيات رئيس الوزراء ، و اغلاق المجلس الوطني و إعادة انتخاب المجلس التشريعي.
مانشيت ثانية تعود في عدد 20 ايار 1958: “ديغول يقول لن أكون دكتاتورا”
الخبر الطويل عشية وصول ديغول إلى باريس، و في الخبر استعراض طويل للمؤتمر الصحفي الذي عقده حتى وصف “صوت ديغول المتهدج” و هو يتحث عن مسألة الجزائر و عن احترامه للذين يريدون إعادة بناء الوحدة القومية على هذا الشاطىء للمتوسط أو ذاك. و قد نقلت تعبيره حرفيا على صفحات الأهرام مما يصور الحيز الكبير و القيمة المعلقة عليه، دون إغفال اللغة الصحفية المميزة للصحافة المصرية في ذلك الوقت، و التي تنقل الخبر بدرامية واضحة، رغم ابتعادها عن الألفاظ التي تتضمن أحكاما على الحدث أو الشخصية للحفاظ على المهنية، و هو الأمر الذي لم تكن تلتزم به الصحف الاردنية – الفلسطينية كالدفاع وغيرها.
ومن المقالات الملفتة في الاهرام لتلك المرحلة مقال لعبدالحليم كساب بتاريخ 4 تموز 1958 بعنوان: “ماذا يريد ديغول؟”
يبدأ كساب مقاله باستعراض سياسات فرنسا قبل ديغول التي “كانت في مجموعها سلسلة من الأخطاء” و منها أخطاء الجزائر و الهند الصينية، و يصف تلك السياسة بـ”الغاشمة” في اشتراك فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر ، و يصف عدم استقرار الوضع الوزاري داخل فرنسا ليصل إلى “انفجار المنشقين” في الجزائر ، ليصل إلى أن ديغول شخصية “ممتازة” لفرنسا و لإخراجها من شبح الحرب الأهلية، و هو يدافع عن التعديلات التي سيجريها على الدستور و يتبنى ما قاله ديغول عن أنه لن يكون دكتاتورا، لكن الكاتب يحتفظ بموقفه من سياسية ديغول الخارجية إلى أن يرى ما إذا كان ديغول سينصاع إلى ضغوط الذين يرفضون استقلال الجزائر أم إلى “رأي يعتنقه و لم يعلنه بعد”؟ و لا ندري اهي محاباة للرئيس الذي كان ما يزال يعلن أن الجزائر جزء من فرنسا، ام انه استشراف وتشجيع لتلميحه الى مسألة تقرير المصير للشعب الجزائري.
مرحلة جديدة في العلاقات العربية – الفرنسية
منذ زيارة المشير عبد الحكيم عامر لفرنسا بعد 38 سنة من القطيعة واستقباله في المطار بالعصير المصري، وحديث الجنرال ديغول عن حفظ توازن العالم وتحقيق السلام ، بدات مرحلة جديدة من العلاقات العربية الفرنسية، خاصة مع مصر. وبالعودة الى الاربع التي اتخذت كنموذج، نجد ان الاهتمام بسياسة الجنرال ديغول وما تبعها من تطورات قد بدا واضحا وغالبا ما احتل الصفحة الاولى وصورها والمانشيت.
كما نجده يتوزع على ثلاثة محاور: موقفه من حرب الايام الستة، وهنا يتركز الامر على ثلاثة بنود: مسؤولية العدوان ، موضوع حظر تصدير الاسلحة الى اسرائيل ، موضوع الانسحاب من الاراضي المحتلة ، وموقع هذين الموضوعين من الرؤية الستراتيجية لفرنسا ولاسرائيل. ما يجيب على السؤال الستراتيجي بدوره: هل كان ديغول يوما ضد اهداف اسرائيل المعلنة في تلك الفترة، ام ضد اهداف ستراتيجية خفية؟
محور علاقة حرب الشرق الاوسط بحرب فييتنام ، وما يتضمنه ذلك من علاقة ديغول بالولايات المتحدة الاميركية. وبمسالة الاستقلالية.
محور احداث ال68 في فرنسا، وهل كانت مجرد افراز داخلي ام انها نتيجة تحريض اسرائيلي اميركي ضد الرئيس بسبب مواقفه الانفة؟
وفي كل ذلك: هل تفاوتت نظرة الصحف المذكورة الى كل هذه الاسئلة هي الموزعة سياسا بين الخط الناصري ، الحامل في تلك الفترة لعبء القيادة الاستراتيجية، رغم هزيمة 1967 (الاهرام) وبين خط يميني ربما صبح اقرب الى الاميركيين بعد حرب 58 الاهلية في لبنان (النهار) وبين صحيفتين ، لم تنتقل اجداهما (الدفاع) من القدس الى عمان الا بفعل الاحتلال (اذن هي صحيفة لاجئة من ضمن صفوف اللاجئين الفلسطينيين )، وتتشكل الثانية (الدستور) من دمج صحيفتين تمثلان بدورهما هؤلاء اللاجئين، في حين يعيش البلد كله – كما لا سواه – ماساة نتائج الاحتلال جديده وقديمه( 67,48) وصدمته.
حرب الايام الستة والتحدي التاريخي:
تبدا صحيفة الدستور منذ بداية حزيران اي قبل اندلاع الحرب بخمسة ايام بالتنبيه الى حملة مبطنة على ديغول في الصحف الاسرائيية حيث تنقل عن معاريف عنوان: “اليسار يفتح الحرب على ديغول ويستشهد بغي مولليه المعروف بعدائه للعرب”
في اليوم التالي تصدر النهار بثلاثة عناوين: “موقف فرنسي جديد تجاه اسرائيل”
“حق اسرائيل في الوجود ولكن مع حياد فرنسا”
“30 الفا يتظاهرون في باريس تاييدا لاسرائيل”
لتنقل بعد يومين عنوان معاريف قائلة: “معاريف تنتقد موقف ديغول : الريح الباردة التي تهب من باريس لن تنفع الا في النفخ على النار” ، خبر تنقله الدستور في اليوم نفسه ولكن تحت عنوان اخر: “حملة اسرائيلية على ديغول بسبب بيانه من الازمة الراهنة” ، ، في الوقت نفسه تورد النهار ببنط صغير اخبار التبرع بالمال والدم (لاسرائيل ولمصر وللاردن) على حد سواء.
تحصل الحرب، وتطرح هنا مسائل: حظر الاسلحة وبدء التحريض ضد ديغول، من المعتدي؟ ما مصير الاراضي التي احتلت واللاجئين؟
الجنرال يلقي بتبعة العدوان عى اسرائيل وهذا ما تنقله الصحف بلا شك، ولكن: بصياغة موضوعية محايدة في النهار: “ديغول يتهم اسرائيل ببدء الحرب ويقول ان هذا ليس في مصلحة العالم”، في حين تغلب على الدفاع والدستور الصياغة العاطفية ، من مثل : “رفضت فرنسا الامر الواقع بالنسبة لحدود الاقليمية ووضع المواطنين، واعترفت بحق العرب في تاكيد شخصيتهم الاقليمية والتنمية”، او من مثل التعليق على رسالة ديغول لبن غوريون بعناوين: “مرة اخرى دمغ ديغول اسرائيل بالعدوان وابلغها ان للعرب اراضي وحقوق يجب الاعتراف بها”
اما الاهرام فتغلب عليها صياغة تحليلية ستراتيجية، وفي حين ترتفع على امتداد هذه الاشهر وتيرة هذا الشد المتبادل بين اسرائيل والعرب ازاء مسالة اتهام اسرائيل بالعدوان ودعوتها لانسحاب، ترتفع ايضا وتيرة الشد بين ديغول واسرائيل ، وتستمر اصداء هذا كله في الصحف المذكورة بنفس الصياغة، لكن الدفاع والدستور والاهرام تبرز مباشرة وبوضوح التحريض الاسرائيلي والصهيوني ضد الجنرال ليس في اسرائيل فقط وانما داخل فرنسا وفي الولايات المتحدة في حين تستمر النهار اللبنانية في ايراد الخبر بصيغته المحايدة، ويغيب عن صفحاتها رصد الصحافة العربية الاخرى (الفلسطينية والاردنية والمصرية للدور اليهودي – الصهيوني في التاليب على ديغول.
فنجد في عدد الدستور مثلا ليوم 23-6-1967 عنوانا رئيسيا يقول: “تحركت الصهيونية في فرنسا لتاليب الراي العام ضد تصريح شارل ديغول” وتحته تفصيل لهجمات الصحافة الاسرائيية ومقابلتها ببعض الصحف الفرنسية المؤيدة لاسرائيل: “الصحف الاسرائيلية: هجوم كررته الاذاعة: هاتسوقة: هذا الموقف سيسيء الى ثقة الشعب الفرنسي بالرئيس ديغول والى علاقاته بالولايات المتحدة الاميركية” – “باري جور – كومبا “انه يوقد النار”.
كما نجد في الاهرام بعد بيان الرئيس الفرنسي في شهر اكتوبر الـ67 وعى مدى ايام عناوين وتحليلات تنتقل من مجرد الخبر الى نقل مواقف الصحافة الاسرائيية الى التحركات في فرنسا واميركا، “ديغول يهاجم اسرائيل ويقول انها تريد الحرب والتوسع”.
“حل الازمة لا يكون الا بالانسحاب الكامل من الاراضي المحتلة”
“دافار تهاجمه قائلة: لم نكن نتوقع انه سيمضي حد كتابة التاريخ بمجرد الحصول على امتيازات بترولية من العراق” 29-11-1967
“توتر حاد بين اسرائيل وفرنسا على اثر تصريحات ديغول”
“هياج في اسرائيل وتهديد بسحب السفير”، “لامرحاف: لاول مرة منذ عهد هتلر يقف رئيس اوروبي ليهاجم ايهود بوصفهم امة”، “بيان ديغول اهانة لشعب اليهودي واسرائيل”، “اسرائيل تشعر بالمرارة الشديدة 550و الف يهودي فرنسي يشعرون بالانزعاج الشديد”.
ويلاحظ بوضوح ان الخبر يصاغ بشكل يؤشر الى ان بيان الجنرال يضع حرب ال67 ضمن وصف ستراتيجي للسياسة الاسرائيلية: “دولة عسكرية مصممة على الحرب والتوسع”، وذاك ما جاء تفصيله في تحليل حمل عنوان وضع على سطر واحد ولكنه قسم هندسيا الى اطارين محدين بخطوط و متميزين بوضوح: “من غي مولليه 1956 الى ديغول “1967، “اتهام ديغول باللاسامية يساوي نفي تهمة العداء للسامية عن هتلر”.
وفي المتن تحليل واقعي يقول ما اختصاره: الرجل وحكومته يدافعان عن اسرائيل، الفارق ان الدفاع لم يعد مطلقا كما كان في الماضي بل اصبح مشروطا بالانسحاب، بدليل نقطتين:
1 – ان الجنرال ينطلق من حق اسرائيل في الوجود ، ويقول بوضوح : لم نخف على العرب اننا نعتبر اسرائيل امرا واقعا ولا نوافق على تدميرها.
2 – انه يطالب بحرية المرور في العقبة والسويس للجميع
هذه هي المطالب المعلنة لاسرائيل، لكن الواقع ان اسرائيل، في مطالبها المعلنة لا تقوم الا بمجرد تكتيك لتصفية حقوق الشعب الفلسطيني وتصعيد الهجرة اليهودية والتوسع . وهي تعتبران حلفاءها الستراتيجيين يعرفون هذا وبالتالي فان اي حليف يقف عند حدود المعلن هو خائن للاهداف الخفية. وهذا ما فعله ديغول عندما تحدث عن اقامة دولة ضمن الحدود التي حددتها لها الدول الكبرى والقرارات الدولية، كما تحدث عن العدوان والاحتلال والمقاومة والانسحاب.
هذا الوعي الاستراتيجي الذي نجده في الاهرام من موقف الرئيس الفرنسي يقابله نشيد مديح متحمس في الدفاع والدستور واغفال الا للخبر العادي، في النهار.
واذ تربط الاهرام في العدد نفسه 9-12 ذلك بالتحريض اليهودي الصهيوني في الولايات المتحدة تحت عنوان: “حرب كراهية في اميركا ضد الرئيس ديغول ”
“10 شركات يهودية تعلن انها تبحث مقاطعة فرنسا”
لتفصل قائلة نقلا عن وكالات الانباء العالمية ان منديل ريدرز رئيس لجنة اوقات المسلحة في الكونغرس قد صرح قائلا: ديغول اكثر الناس نكرانا للجميل منذ خيانة يهوذا للمسيح، وان دعا ومعه ثلاثة نواب هم: سيلدين، غروس وولف، الى المطالبة باجراء اقتصادي ضد فرنسا. وفي الوقت نفسه دعا لاري ارديتشر الى شن حملة في النيويورك تايمز: “نشعر ان الوقت قد حان لاثارة الامركيين الى العمل ضد الجنرال ديغول وفرنسا”
حظر السلاح: رهان اساسي
اذا كان موقف الاهرام المؤيد والتحليلي يعكس موقف دولة تقود سياسة ستراتيجية وتريد بعد الهزيمة ان تعيد بناء سياساتها وجيشها، خاصة وقد وضعت نصب عينيها مشروع اعادة البناء لمباشرة حرب الاستنزاف، فانه من الطبيعي ان يتركز اهتمامها، وبالمقابل مثله اهتمام الدولة العبرية على قضية حظر ديغول لتصدير السلاح الى اسرائيل، مما يفسر ان نجد في الصحف الاردنية – الفلسطينية صرخة عرفان من مظلوم انتصر له منصف ، صرخة صحيفة طردت من بلادها على يد المحتل مرتين: مرة اولى من يافا ومرة ثانية من القدس، واخرى ولدت من دمج صحيفتين مشابهتين، صرخة تصل حد الحديث عن ديغول كبطل قومي وتفخر بانه الزعيم الوطني. في حين نجد في الاهرام تركيزا على المفاصل ، ومتابعة حثيثة لمساعي اسرائيل رفع الحظر من مثل تصدير عدد الاهرام 5-11-1967 لعنوان: “حملة للضغط على ديغول لالغاء حظر تصدير الاسلحة”
“بعد ان فشلت محاولات بن تسور مساعد دايان”
وبالمقابل نجد صياغة رويترز للخبر نفسه وكانها تعرض الضغوط بلغة تحمل تهديدا مبطنا، لتعود الاهرام بعد خمسة ايام اخرى الى خبر يوضح متابعة دقيقة:
“وسيلة صهيونية جديدة للضغط على ديغول لرفع الحظر عن تصدير الاسلحة لاسرائيل” وفي الخبر تفصيل عن اضراب نقابة عمال شركة داسو احتجاجا على الحظر ( ومن الملفت هنا ان هذا الاضراب قد جاء قبل نصف عام من اضرابات 1968)
وفي السياق ذاته تتعرض الاهرام لصفقة سلاح بين العراق وفرنسا: “الصهيونية تهاجم ديغول داخل فرنسا بسبب اجراء مفاوضات حول صفقة سلاح مع العراق” وتورد المقولة الاسرائيلية بان هذه الطائرات كانت ستعطى لاسرائيل، والاحتجاج على ان “الحظر مستمر علياسرائيل ومرفوع عن الدول العربية”
في حين نبحث عن الموضوع في النهار فنجد انها لا تمنحه ذات القدر من الاهمية، وهي اذ تضع عنوانا مثلا يقول “التركيز على مسالة رفع الحظر عن اسرائيل” فانها لا تلبث ان تنقل مقولة غربية بان اسرائيل هي من اكبر الدول المستوردة للسلاح من فرنسا وان استمرار الحظر سيؤدي بها الى الاتجاه نحو طرف اخر 22-6-1967 النهار.
بعد ذلك باشهر نجد في عدد النهار ليوم 20-5-1968، ابرازا لرسالة ديغول الى بن غوريون ولرد بن غوريون: “لا ادري اذا كانت رسالة ديغول تعني رفع الحظر عن تسليم الميراج”….”ولكنني اقدر انه لم يقدم تنازلات امام مشاعر يوسف زعين” …”ليس عدوا لاسرائيل ولا للشعب اليهودي” ولكن: الانسحاب دون معاهدة سلام، مما يظهر بوضوح ان السياسة الاسرائيية لا تلتفت كثيرا الى الكلام، وهي مستعدة للتخلي عن اتهاماتها، شرط ان يتحق ما يهمها من فعل الا وهو : السلاح وعدم الانسحاب.
ربط حرب الشرق الاوسط بحرب فييتنام وبالاستقلالية.
هذه المسالة تعتبر مفصلية على الصعيد الدولي لانها تمس بمسالة العلاقة الفرنسية الاميركية وبالتالي بدعوى الاستقلالية الاوروبية ، والدعوة الى التوازن الدولي . من هنا نجد صداها في النهار والاهرام اقوى منه في الدفاع والدستور، فتخرج النهار يوم 23 – 7 – 67 بعنوان: “ديغول يعلن ان فرنسا تدين اسرائيل ويحمل اميركا مسؤولية التوتر ويطالبها بالانسحاب من فييتنام”
لتعود فتبرز في الايام التالية الرد الاميركي دون تعليق. ويلاحظ ان النهار التي كانت قد اعطت مساحة لا باس بها للحديث عن مبدا الاستقلالية الديغولية خلال ايار حزيران 1954 ، عادت فسكتت عن هذا الموضوع بل وابرزت محاضرة لروبرت شومان تحت عنوان :”لاباس ان تضحي فرنسا باستقلاليتها لاجل امنها”
اما الاهرام فنجد اهتمامها الواضح باهمية فكرة الاستقلالية الاوروبية – هي التي سعت ايضا لتشكيل كتلة عدم الانحياز – نجده منذ بداية الستينات، ويتجلى مثلا في مقال لجورج عزيز في في 21 كانون أول 1965عزيز تعليقا على فوز ديغول ضد ميتران في الانتخابات قائلا ان هذا الفوز “يعني استمرار فرنسا في سياسة الاستقلال و اللاإلتزام الخارجية”، و وذك بعد ان بدت الاهرام متبنية لانتخابات ديغول عبر تغطيتها وتحليلها لمحاولات وكالات الإعلام الغربية التشكيك في شعبية ديغول قبل الانتخابات. وعبر تحقيقاتها عن الانتخابات الفرنسية في نفس الفترة. كما ما نلحظ ايضا تغطية كثيفة في الأهرام من 1959 و حتى 1965 لمحاولات اغتيال ديغول ووصف مدبري محاولات الاغتيال ب”الإرهابيين”.
لكن التحليل التفصيلي المعمق لهذا الموضوع نجده في مقالة للطفي الخولي في عدد الاهرام يوم 19-1-1968 تحت عنوان :”لماذا ربط ديغول بين حرب الشرق الاوسط والشرق الاقصى”
فبعد ان يحلل الكاتب المصري كيف ان ديغول لم يميز في حياته بين يهودي وغير يهودي وبعد ان يقول ان موقفه عام 1967 لم تمله قط الشجاعة الديغولية وانما اختيار موضوعي لما بعد 1956، لفرنسا التي لم تعد تابعا للقوة الاميركية وانما دولة ملء ردائها كدولة عظمى ، قطعت صلتها بالاستعمار وبلغت من النمو والقوة الاقتصاديين ما جعلها منافسا . تقدم لاوروبا نموذجا على امكانية الاستقلالية من خلال : السوق المشتركة واقامة علاقات مع دول العالم الثالث. ويصل الكاتب الى القول ان ديغول خرج بثلاثة اسس لموقفه: وحدة فرنسا الداخلية وابعاد العناصر المتاثرة بالخارج، اسرائيل اصبحت اداة لتنفيذ السياسة الاميركية لا ضد الدول العربية فحسب بل ضد الاستقلالية الاوروبية، حرب الشرق الاوسط هي امتداد لحرب فييتنام وكلاهما ينبع عما يسميه ديغول”غرور ورعونة القوة الاميركية الهائلة التي تهدد السلام العالمي تهديدا خطيرا”
ولا ينسى الخولي ان يوضح “التحرك المضاد الذي بدات تمارسه اميركا داخل المجتمع الفرنسي نفسه” ، ومعها اسرائيل بحيث “لم يعد والتر ايتمان يتصرف كسفير دولة اجنبية وانما كزعيم لقوة محلية”
احداث 1968
محطة تالية مهمة تنشغل بها الصحافة وتشكل زاوية اخرى للنظر الى الرئيس الفرنسي: لا تغير في موقف اي منها ، فالدفاع والدستور متعاطفتان بشكل مطلق وكان المعركة معركتهما، والاهرام لاتقل تعاطفا ولكن بلغة منطقية تحليلية، فيما تبدو النهار اكثر من حيادية ، بل ان التعمق احيانا في اسلوبها للتغطية يبرز تبريرا ما لموقف المضربين، ولموقف الحزب الشيوعي ذاته بل انها كثيرا ما تنقل عن صحيفة الحزب الشيوعي، بل مما يثير التساؤول حول هذا التناقض من طرف صحيفة يمينية ، لكنه تساؤل يسقط، مرة اخرى، امام سياق الحرب الباردة وموقف الصحيفة السلبي من عبد الناصر ، وبالتالي ممن يتحالف معه، والايجابي من الولايات المتحدة لاميركية ، وبالتالي ضد من يخاصمها او ينافسها . وذلك ما يفسر ايضا ان الصحف الثلاث الاولى، المصرية والاردنية – الفلسطينية تجاهر بالاتهام الواضح للصهيونية في تحريك الاضطرابات، بينما تغفل النهار ذلك تماما ، كما يفسر طريقة الكلام عن اعمال العنف وتحميل المسؤولية واظهار التاييد.
في موضوع دور الصهيونية مثلا تركز الدفاع والاهرام والدستور على دور اليهود الصهاينة في تحريك الاضطرابات :”الصهيونية من وراء التظاهرات والحجارة سلاح المتظاهرين”، كما تركز على صفة كوهين بنديت كيهودي صهيوني: “اضطرابات فرنسا اقتصرت على الطلبة الساخطين وكوهين اليهودي يطالب باستمرار الاضرابات والابقاء على حركة الاحتجاج”، في حين لا يرد اي شيء من ذلك في النهار وتصف بندت بانه “طالب يساري” فحسب.
في موضوع العنف: نلحظ اغفال النهار لطابع العنف من طرف المتظاهرين، سواء بالكلمة ام بالصورة، فتصفهم بالمعارضة فقط ، في حين تستعمل الدفاع الاردنية الفلسطينية عبارات من مثل”اكثر عمال البلاد تطرفا”او”الطلاب المتطرفون”. اما الصورة فهي في النهار لتراكم النفايات، في مقابل صورتملاء الصفحة الاولى لجريدة الدفاع ل: سيارات محروقة واكوام من الحجارة واسلاك واعمال التخريب والعنف ، وكل من هذه الصور تحمل سيميولوجيا معنى تحميل المسؤولية لطرف دون الاخر. ولكن بالرغم من ذلك ياتي مقال مشال ابو جوده الرئيسي وفيه تعاطف واضح مع ديغول.
في موضوع تحميل المسؤولية تبدو عناوين النهار محايدة من مثل: “احتلال المؤسسات مستمر وحركة النقل مشلولة” ولكننا نجد العناوين التي اذا ما حللت صياغتها في اطار ترتيب الفعل وردة الفعل تبدا بموقف من الحكومة ثم تنتقل الى ردة فعل المعارضة بما يشكل سيكولوجيا عامل تبرير، من مثل :”وكان دانيال كوهين قد منع من دخول الاراضي الفرنسية مما جعل الطلاب يرفعون شعارات مؤيدة لاسرائيل ومنادية بسقوط ديغول”، “كوهين بندت يفشل في اختراق قرار المنع فيتظاهر لاجله 20 الفا” ، او”الحكومة الفرنسية تامر باستعمال القوة فيتحداها الطلاب باعلان الاثنين يوم تظاهر وطني” او من مثل المانشيت المزدوجة: السطر الاول بالبنط الابيض وبصياغة جملة طويلة مفصلة (مما لا يجعلها تعلق بالذهن) حول ما دعا اليه الرئيس ديغول. ثم السطر الثاني بالبنط الاسود العريض “المعارضة: لا للاستفتاء …لا لديغول”. مع كل ما يمكن ان يعنيه هذا على صعيد تحليل الخطاب الاعلامي.
اما اظهار التاييد والانحياز الى صف ديغول فانه يبدو واضحا في الصحف المصرية والاردنية لكنه يكتسي في الثانية بعدا عاطفيا متحمسا، خاصة بعد برقية الملك حسين التضامنية مع ديغول. فنجد الدفاع تفرد صفحتها الاولى وعنوانها الرئيسي وا فتتاحيتها لنقل البرقية : وللتعبير عن موقف حاسم مع ديغول ضد الطلبة وتذكير بموقفه من الجزائر، حيث يستعرض ابرهيم الشنطي في مقاله الافتتاحي ظواهر السلبية والضعف ليخلص الى القول :”كل هذا انتهى، انهاه رجل يحب فرنسا اكثر مما يحبها اي مدني او عسكري، جاء الاستقرار والعملة الصعبة المحترمة ، انتهت حرب الشجعان، وبدت فرنسا الدولة الاولى في اوروبا، ما السر اذن في هذا الانقضاض العجيب على البناء الجديد ؟
سؤال يعيد طرحه يوم 1 – 6 – 1968 تحت عنوان: “تحية للجنرال ديغول”: “اين الامر المعقول في ان يتحدى طالب كدانيال كوهين رجل بلغ حبه لفرنسا اضعاف حبه للفرنسيين ؟”ومن ثم اشادة ب:”الصفات والمزايا الانسانية التي ترتفع باصحابها الى ذروة البطولة”، ووصف ديغول بمزايا”الحق والعدالة والشجاعة والايثار” الى ان تختم بتحية”اعجاب الامة العربية وصدق دعائها”
اخيرا، ولان الكلام عن الصحافة العربية لا يمكن ان يكتمل بدون محمد حسنين هيكل فقد اخترت من ندواته الاخيرة على الجزيرة مقطعا يعود ليوم 12 – 12 – 2005 – حاولت جهدي ان انقله من العامية المصرية الى الفصحى دون الاخلال بالامانة والنكهة الخاصة:
“كان لفرنسا وضع خاص، فرنسا ضربت في اول حرب واستسلمت، لكن هناك رجل طلع وقال ان فرنسا لا تخاف من الهزيمة، اعتبر انه يمثل فرنسا وهذا درس لنا. هو ينتمي الى طائفة البيروقراطيين العسكريين لكنه رجل عنده رؤية للتاريخ، وعنده تصورات للحرب . انتهت الحرب وتحررت فرنسا من هتلر ولكن كان عنده الحلفاء رايحين يغزو فرنسا، اذن تحول دوره الى مقاومة الاستيلاء الفرنسي على فرنسا، وعلى ارث فرنسا… دور جدير بالالتفاف. لنتكلم عن رجل تاريخي وليس عن مسالة الواقعية، انها اكبر جدا من الواقعية، انها رؤية تاريخية. يجب ان نتعلم منه”.