نكون أو لا نكون

صحيفة الخليج، 25-11-2008

كنت فخورا بك، لتمكنك من الموضوع ولتمكنك من لغتك.

 

اسعدتني الملاحظة وابكتني، اسعدتني لانها جاءت من رجل اجله كثيرا، واعتز بانه اشرف على رسالتي للدكتوراه. واحد من ابرز اساتذة وخبراء الجيوبوليتيك في فرنسا وفي العالم، ومن اكثر هؤلاء خبرة ميدانية بالمغرب العربي واوروبا الشرقية واسيا (الصين – فيتنام – كمبوديا.. الخ).

 

وابكتني بسب السياق الذي وردت فيه. فقد كنا نخرج من الجلسة ما قبل الاخيرة في المؤتمر الذي عقدته جامعة السوربون ابو ظبي حول “السياسة العربية لشارل ديغول” اتفقنا منذ اليوم الاول، نحن المشاركين العرب، على ان نقدم اوراقنا باللغة العربية، خاصة بعد ان طلبت منى مكرم عبيد من طالب اماراتي ان يوجه سؤاله لها باللغة الانكليزية (فيما يعني انها اعتبرت ضمنا انه لا يعرف الفرنسية)، وفيما يعني ايضا اعتبارا ضمنيا بان العربية غير واردة. وامام احتجاجات القاعة: نحن في عاصمة عربية وهذا مواطن يريد ان يسأل بالعربية، لجأت السيدة عبيد الى استعمال سماعات الترجمة، فيما كنت انظر الى يميني فاجد هدى جمال عبدالناصر. اتفقنا، لكن اتفاقنا، لم ينفذ ولاسف من قبل الجميع، ويسجل للدكتور احمد نوفل، رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة اليرموك، انه قدم ورقته باللغة العربية، رغم انه كان قد كتبها بالفرنسية. لنكتشف ان امورا كهذه يجب تنسيقها مسبقا.

 

كنا نبحث وننقب على مدى ثلاثة ايام في ارث شارل ديغول، وفي مدرسته السياسية، ولن ادخل في التفاصيل – ربما اتيح لي نشر ورقتي على صفحات صحيفتنا – وكان المحور المركزي الذي يتفق عليه الجميع، ولا ينسى احد ذكره، من دومينيك دو فيللوبان الذي افتتح، الى الامير الحسن بن طلال الذي اختتم، مرورا بكل الباحثين، هو المنطلق الديغولي القائم على الفخر والكبرياء بروح الامة، لدى هذا الجنرال الذي اعتبر نفسه وريثا وابنا لمقولة الفيلسوف الفرنسي باسكال: “وطني هي اللغة الفرنسية”، مقولة لم ينفك اندريه مالرو وزير ثقافة ديغول عن ترديدها.

 

لذا بكيت. بكيت وانا ابحث عن وطني في لغتي. بكيت وانا ابحث عن مواطني في لغتي. بكيت وانا اتشبث بصدر لغتي كما يتشبث الطفل الرضيع بصدر امه. بكيت وانا ارى استاذا كبيرا مثل جاك بارا يقول لي انه فخور بي (كاحدى طالباته) لتمكني من لغتي العربية، هو الذي لا يعرف منها الا بضع كلمات. كنت اعرف ذلك، ولكنني سالت بتلقائية: لكنك كنت تضع سماعات الترجمة، فاجاب: كنت اراقب تمكنك من خطابك، وكنت اراقب سيطرتك على بنية هذا الخطاب، واراقب راحتك المسترخية رغم الحماس للفكرة، والواثقة، هذا لا يمكن ان يتحقق بدون امتلاك اللغة. اللغة يا ابنتي هي نظام فكري ثقافي، اذا خرج منه الانسان سقط في التشوش.

 

صديقتي فاطمة الكراي، تبادره مازحة: لكنك تعرفها وقرات رسالتها الجامعية، فيجيب: “اجل ومنذها قدرت بان هذه المراة متمكنة من لغتها والا لما استطاعت ان تتمكن كما هي من لغتنا، مع حفاظها الحار على انتمائها القومي، وجرأتها في مقارعتنا جميعا بخصوص قضاياها. اللغة نظام فكري وبنية، ويمكن للانسان ان يتقن نظامين وثلاثة وبتميز، لكنه ان لم يبدأ بالنظام الاول الذي يشكل روحه الثقافية كانسان، فانه لن يغنم من اتقان اللغات الاخرى الا فقدان الهوية، الاقتلاع والضياع.انا فرنسي واتقن الانكليزية، واتقن ان افكر بها علميا وبحثيا، لكنها لا يمكن ان تكون لغة اقدم نفسي بها، لغة روحي. لا يمكن لامة ان تنهض بلغة اخرى، كما لا يمكن للروح ان تعيش في جسد غير جسدها”. الى هنا وانا لم اضف كلمة واحدة الى كلام جاك بارا، فهل الام اذا بكيت. خاصة وانني كنت العربيةالوحيدة ضمن المجموعة القادمة من باريس، والنتيجة انني كنت الوحيدة التي اضطرت الى الذهاب الى السفارة في باريس، ودفع مبلغ مئتي يورو، وذلك طبعا بعد رجاء متكرر لجامعة السوربون ان ترسل كتابا يتكفلني انا الاعلامية العربية العريقة (التي تعرفها كل صفحات وشاشات العالم العربي وخاصة الاماراتية)، المهاجرة منذ ثلاثين سنة، داخل الوطن العربي وفي فرنسا، لانها رفضت يوما مقولة الاقليمية اللبنانية، وظلت تقاتل كل الاقليميات الاخرى المنتشرة على مدى العالم العربي.

 

فهل علي ان اسأل في اخر العمر: هل انا مجرد دون كيشوت؟ خاصة وانا ارى زملائي الفرنسيين يحصلون على التأشيرة اوتوماتيكيا في مطار ابو ظبي. ام ان عليّ ان استمر في الايمان بان لا خيار في القتال لانها ليست مجرد مسألة خيار بل مسألة ان نكون او لا نكون.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون