هل تعرفون الكماة، ذلك الشيء الاشبه بحجر اسمر صغير او بحبة بطاطا مشوهة، اللذيذ الطعم، الذي كان يقال بان الارض تلفظه مع البرق والرعد. وبما ان كل شيء في طبيعة ما بين النهرين متفوق عنفا كما هو متفوق خصبا فان كرم هذه الارض بالكماة كان فائضا ومتفوقا على حاله في كل ارض عداها. كذا كانت الكماة وما تزال من اغلى الماكولات ثمنا في بلادنا، لكن غلاءها نا لا يقارب باي شكل ثمنها في الدول الاوروبية، حيث تصل وجبة الكماة في المطعم الباريسي الشهير المعروف ب ” بيت الكماة ” والمواجه لكنيسة المادلين، الالف يورو، رغم ان المكان يبدو عاديا ن حيث المبنى والديكور.
لذا لم يكن لخبر اقرؤه في احدى الصحف الخليجية عن حفل مزاد على الكماة، الا وان يحيلني مكانيا وروحيا الى اثنين : العراق وغزة. خاصة وان متابعة تصفح الجريدة تقودني الى مقال للزميل الدكتور عبد الله السويجي، حول توقعات العرب للتغير الذي يحمله اوباما. حيث يقول خلاصة، بان التغيير لن ياتي ولا من اسرائيل، لسبب بسيط جدا هو ان الدول لا تلعب الا لعبة المصالح، بل انه، ان اردناه صدقا، سياتي من اصلاح اوضاعنا الداخلية بكل ما فيها من استقالة من التاريخ ماضيه وحاضره ومستقبله.
حملني خبر المزاد على الكماة التي وصفت في الخبر ب : ” البيضاء ” الى جوع غزة لرغيف ولو سوداء، الى رعود وبروق العراق التي يعمل الجميع على خنقها كي لا تلد كماة لا سمراء ولا بيضاء،والاهم كي لا تلد مطرا منهمرا، يتحول الى سيل مخصب يصل في النهاية الى حقول غزة، وحقول كثيرة لم تنبت الكماة يوما.
كذلك حملني هذا الخبر ووصفه الى الجوع العربي لكل ابيض وارد الينا من الغرب،جوع عقدة الدونية الحضارية والنقص التي لن تردمها كل اموال النفط والغاز المعادن، لا ولا كل اتقان اللغة الانكليزية وما شابهها، على حساب الاغتراب عن العربية وحضارتها وثقافتها وتاريخها وقدراتها، في وهم اللحاق بالحداثة ونفي تهمة التخلف الكامنة في قاع الذات.
فنحن متخلفون لا ننا نجهل اللغات، ولكن لاننا نجهل انفسنا، نجهل الكتل السرطانية المهلكة التي تسري في دمائنا وعظامنا واعضائنا،كتل تنمو ككل السرطانات عشوائيا وجنونيا، في حين نزيد من صخب الحفل وصوت الموسيقى كي لا نسمع الانين.
نحن متخلفون بسبب الجهل، بسبب الفساد، بسبب عدم احترام حقوق الانسان، بسبب غياب الحريات الفكرية وحق الصراع الفكري الحضاري الذي يبلور الخيارات، بسبب غياب الديمقراطية وتداول السلطة، بسبب تراجع ايماننا بهويتنا وافتخارنا بها، ونتيجة لكل ذلك بسبب اعتقادنا المريض بامكانية تعويض ذلك عبر انتحال ذات الغير، وشراء ثمار منجزاته.
ليس ما اقصده بالطبع، دعوة الى الانغلاق، فتطور الحضارات لم يقم يوما الا على التفاعل والتبادل، لكنه – اكرر- لم يقم يوما على الانتحال، لم يقم يوما على التبعية، لم يقم يوما على هستيريا عقلية السوق التي توهم بان كل شيء يشترى، فينسى البعض انه قبل ذلك قد زرع وصنع او بلورته عقول خلاقة. لم يقم على اهراق المليارات على الاخر الذي ننظر اليه بدونية وينظر الينا باستعلاء، حتى ولو مد يده مبتسما لمصافحتنا وصولا الى جيوبنا، في حين تتلمس ايدي الامة، مبدعيها واحرارها، طريقهم الى التمكن من التحرر الوطني والفعل الحضاري.