عندما صدرت وثيقة وزراء الاعلام العرب في القاهرة، هبت اوسا ط الاعلاميين الاحرار تعلن الحرب على ما اعتبرته ردة على ما حققنا من مكتسبات على صعيد الحريات الاعلامية خلال السنوات الخمسة عشر الاخيرة. ردة تتمثل في العودة الى تدخل الحكومات العربية وخاصة وزارات الداخلية والاعلام، في شؤون الاعلام. يومها تحفظت طر على الوثيقة، وتضامنا كلنا معها، وانطلقنا على صفحات الصحف وعلى شاشات الفضائيات وعبر المنتديات الدولية نخوض حربنا من جديد لاجل الحريات.
وعندما بادر خبراء دوليون الى مواجهة تغول العولمة الاميركية في مجال الاعلام، بما اسموه: اخلاقيات الاعلام، سعدنا بانهم تحدوا اللوبيهات اليهودية بدعوة التلفزيون الفلسطيني وتلفزيون المنار الى مؤتمرهم الاول في فيينا، في الوقت الذي كانت فيه محطة المنار تواجه المحاكم في فرنسا واستراليا وكندا، في محاولة لمنع بثها.
واذكر انني عندما اعددت رسالتي للدكتوراه حول الفضائيات، احتج المشرف على ادخال محطة المنار ضمن البحث، وادراجها ضمن سياق الاعلام الاخلاقي، ولكنني توصلت بعد مناقشة اكاديمية بحتة حول مفهوم الموضوعية ان اقنعه بوجهة نظري.
كان المختصون يفهمون ان الموضوعية المطلقة في الاعلام هي امر خيالي بحت يضحكون فيه على عقول الطلاب الصغار لكي ينشؤوا منهم مجرد تكنوقراط منزوعي الجذور، وعلى الاعلاميين ووسائل الاعلام التي تريد تبرير عدم التزامها بقضايا الوطن والانسان، ان لم يكن تبرير تسويقها لمخططات العدو. فمن المسلمات التي لا يناقشها احد، ان تطور نظريات ووسائل الاعلام بالشكل المذهل الذي حصل خلال القرن الماضي قد ارتبط دائما بامرين: الحروب والانتخابات،وهما امران لا مجال فيهما للحيادية. وان كان من شان الحرية الاعلامية ان تحد من الكذب، وان تترك للمتلقي وعقله امر الحكم فيما يتلقاه من رسائل اعلامية قد تصل حد التضارب، وامر منح صفة المصداقية الاعلامية لهذا المصدر او ذاك.
لقد كان الاعلام الاميركي مثلا عاملا حاسما في مجريات الحربين العالميتين وفي مصير حرب فييتنام وفي اقرار الحرب على العراق، كما كان دائما عاملا حاسما في نتائج الانتخابات.
وفي سياق التقييم الاكاديمي نورد مثلا امرين يتعلقان بقناة الجزيرة: اولا ان هذه القناة بدات تفرض نفسها على الساحة العربية والدولية عبر مساحة التغطية الاعلامية الفورية للاحداث الساخنة من افغانستان الى العراق الى فلسطين الى حرب لبنان. ولا ينسى احد ان الخطوة الاولى للمحطة في فرض نفسها دوليا هي نقل السي ان ان عنها تغطية حرب افغانستان. وثانيا ن انها لم تكتسب شعبيتها الكاسحة على الساحة العربية، وعبر الامتداد الجيولغوي العربي الا بفضل التزامها بالكامن في الوجدان الوطني لهذه الجماهير سواء فيما يخص لبنان او فلسطين او العراق. واذكر ان مدير عام احدى المحطات الكبيرة المنافسة قد قال لي: انت من جماعة الجزيرة، وتتهمين محطتنا، هل يمكنك ان تجري تعدادا احصائيا لعدد الشخصيات الاسرائيلية التي تظهر على الجزيرة وبالمقابل ما يظهر منها على شاشتنا؟ هل قرات ما كتبه الباحث الاميركي جون الترمن عن دور المحطات الفضائية في عملية التطبيع؟ وللامانة الموضوعية، لم استطع ان اجيبه الا بان الجزيرة تعوض ذلك بالماسحة المتقدمة كما ونوعا التي تمنحها لظواهر المقاومة العربية على كل الساحات، وذلك ما لاتفعلونه انتم.
استعرض ذلك كله لاؤكد على حقيقة ولاطرح جملة اسئلة، اثارتها في الذهن قضية برنامج الزميل غسان بن جدو مع المناضل سمير القنطار. الحقيقة ان الجزيرة ليست كيانا مجردا هلاميا، فالجزيرة هي ثلة اعلامييها وفي مقدمتهم كبارها، وبينهم الزميل بن جدو الذي حق لمكتب بيروت نجاحا استثنائيا، وربما تكمن احدى ميزاتها في انها تحسن الاختيار. اما الاسئلة فهي، بناءا على كل ما ذكرت:
– هل تحفظنا بل وحاربنا العودة الى رقابة الحكومات العربية لننتقل الى رقابة اسرائيل؟
– هل تجرات الجزيرة على كل الحكومات العربية مجتمعة ولم تتجرا على اعتراض اسرائيلي؟
– هل تعني اخلاقيات الاعلام، تجاهل نضالات الناس، ومشاعرهم، وحقوق الوطن واهله؟ هل تعني الاقتصار على استقبال اصحاب الكلام الجذري الملتزم، واكتساب الجمهور بهم،والامتناع عن استقبال اهل الفعل الذي يقدم للشباب نموذجا؟ ام ان هذا هو الخط الاحمر: قل ما تشاء ولكن لا تفعل.
– هل نسينا استقبال شارون وبيريز على شاشة محطتنا، وتعبير المرغم المغلوب على امره على وجه وهو يحاورهما؟ فلماذا لم تعتذر لنا محطتنا عن ذلك؟
– هل تنفق الحكومات العربية مليارات الدولارات على فضائياتها، كي تسوق اقتصاد السوق والاستهلاك وقيمه و تتخلف عن منح مساحة لبطل قضى ثلاثين سنة من عمره في سجن العدو دفاعا عن امتها؟ ولماذا اذن هذا الاعلام ” العربي “؟
– هل يتجرا عربي بالمقابل ان يطلب من التلفزيون الاسرائيلي عدم الاحتفاء بباراك ( فتاة فردان ) او بتسيفي ليفني ( ربيبة الارغون والموساد المشاركة في اغتيال ابو جهاد )،او موفاز المستحم بدماء اطفال الانتفاضة؟
– هل يتعلم الاعلاميون من الخبراء الاميركيين انفسهم ن الدور الذي لعبه الاعلام الاميركي في الحربين العالميتين، وفي كل حروب اميركا؟
– هل نتعلم كلنا من الغرب ( الموضوعي ) كيف تكرس كل قرية فرنسية، وكل ساحة في المدينة، بالنصب وبالاحتفالات السنوية ذكرى كل جندي او كل مقاوم استشهد او اعتقل خلال الاحتلال النازي؟ هل لاحظ العرب الذين زاروا اللوفر الكوى المحفورة على سوره لهذه الاسماء، بورودها النضرة دائما؟
– واخيرا وبحسبة مهني بحتة: هل ادركت الجزيرة ان كل مشاهدي العربية والفضائيات الاخرى قد قبوا الريموت كونترول الى شاشتها يوم تحرير القنطار ورفاقه، وخلال البرامج التي بثتها عن ذلك، ومنها حلقتي بن جدو، ولو لم تفعل، لكان جمهورها بدوره قد قلب الريموت كونترول الى المنار او النيو تي في؟ فهل يظن المشرفون على الاعلام ان الشعوب اطفال تلقم قناني الرضاعة ( البيبرونات) كما توضب لها؟
ان اخطر الشعوب هي تلك التي تاخذ الشكل الذي يمنح لها، يقول بومبيوس ميلالا، ولا اعتقد ابدا اننا من هذه الشعوب السائلة اللزجة، ولا اعلامنا بالتالي.