زيارة الى تونس

صحيفة الشروق، 14-07-2008

ابحث في ثنايا الذاكرة عن بداية قصتي معها، انا السنديانة اللنبتت بين صخر وساقية  تسير غير بعيد نحو بحر، وهي المستلقية على الشاطىء الاخر للبحر نفسه . اجد البداية التي لم يسلم  من لهبها الجميل خيال اي ناشىء عربي، نشيد ابو القاسم الشابي، وتلك المعادلة المذهلة الابداع بين قائمتين:  شعب – ارادة – حياة، وغيم – قيد – وكسر. اجل من خلاله عرفت الطفلة اسم تونس للمرة لاولى،  مكلللا ببهاء ثبته صوت فريد الاطرش و صفة الخضراء.  لتعرف متاخرة ان  تونس  هي قرطاج المعنية باحدى  القصتين اللتين جلعتا لها جناحين من كبرياء وطني  وكبرياء انثوي، اذ  حملهما  اول كتاب تاريخ مدرسي اعطي لنا  حول تاريخ لبنان ، مزيننا بصورتين متخيلتين للاميرتين  الجميلتين، اللتين مشتا من  شاطئي، لتبني احداهما مملكة قرطاج و تقاوم امبراطورية روما، ولتعطي الثانية اسمها لقارة كاملة: اية امراة انا واليسار واوروب جدتاي! وقرطاج واوروبا  من اشعاع  تاريخي!

هذا الفخر الذي اراده لنا  سعيد عقل  لبننة تحشرنا ضمن حدود سايكس يكو، لم يتاخر ان تعمق مع كسر اول طوق  مضروب حول الطائفة والجبل، ومن ثم مع كسر الطوق الثاني المضروب حول الفكر الانعزالي  الى رحابة الوعي القومي، واخيرا، مع  قسرية الهجرة، التي كان لها رغم كل  قسوتها،  فضل النقلة  المفصلية الثانية: النقلة من الرحابة القومية فكريا، الى التماس الفعلي مع هذه الرحابة  معيشيا ويوميا. كما كان لها قسوة الارغام على التخلي عن مهنة المحاماة  والانتقال الى مهنة الاعلام.

وبذا جئت تونس للمرة الاولى ضمن مؤتمر للاعلاميات العربيات، واذكر انني علقت بانني اشعر بالفة تفوق ما احسه في اي بلد شقيق اخر، لترد علي زميلة تونسية : يا حياة جدتنا واحدة، نحن بنات الخالات!

صداقات كثيرة تكونت منذ الزيارة الاولى.  لتتضاعف وتتعمق مع انخراطي في حقل الابداع المكتوب مسرحا ونقدا وشعرا، هناك حيث تتحول الملتقيات العربية الى عربية وكفى… وتثبت، كل يوم، ان الثقافة العربية بلغتها الرائعة، تظل العامل الموحد، والعامل الوحيد الذي يحافظ لنا على علامات فارقة على بطاقة الهوية، بدونها لن نكون الا كاولئك اللقطاء  الذين يمنحون اسماءا مرتجلة، يعيشون العمر، يحملونها ويحملون معها عقدة  كونها ليست اسماؤهم. مجرد كتابات طبشورية على الواح التاريخ.  عامل موحد،  شرط ان نعرف كيف نقاربها مقاربة حضارية ثقافية لا عرقية، فالعروبة هوية ثقافية ميزت المنطقة بشرقها وغربها  طيلة اربعة عشر قرنا، ولغتها  حضن ثقافي حضاري، جسد لمنجز  ، لا يمكن لعاقل ان يتخيل ما الذي يمكن ان يحصل لموقعنا على خريطة الحضارة الانسانية بدونه.

صداقات تفتح لها الباب وحدة الثقافة  لتعمقها وتثبتها وحدة الموقف. فالفعل الثقافي ومنه الاعلامي  فعل موقف من قضايا، في مختلف مجالات الحياة.  والقرابة الحقيقية هي تلك الروحية التي تربطك  بمن يشاركك موقفك. دون ان يعني ذلك اطلاقا رفضك لمن تختلف معه، شرط الا يكون  في الاختلاف تجاوز للثوابت الوطنية  البديهية لدى كل شعوب الارض. لذا عرفت الكثيرات، والكثيرين من الزملاء، وتكونت بيننا علاقات  لعل اكثرها عمقا واستمرارية تلك التي ربطتني بفاطمة بن عبد الله  الكرّاي، ومنذ اللحظة الاولى للقائنا في   بهو قاعة الملتقى .

بذات الحس وجدتني وانا اعود في مهرجان مسرحي قبل سنوات، انخرط مباشرة في الصراع القائم بين تغريب المسرح العربي وتاصيله، واكتب بوضوح ازعج البعض ضد التسول على ابواب  الثقافات الاخرى، خاصة الفرنسية، وضد التقوقع  بعيدا عن التفاعل الثقافي المؤدي الى النماء.

اعود اليوم ، بعد ان زادت ارتباطاتي الملموسة  بالساحة  عبر اتحاد الكتاب العرب ، والفعاليات الكثيرة التي عبرت السنوات السابقة، عبر فضل الفضائيات العربية  ، في جعل اطلالاتنا وسجالاتنا الفكرية والسياسية ، تتجاوز المحلي الى الفضاء القومي بل والجيولغوي، عبر الجالية التونسية الكبيرة التي عايشتها في فرنسا، وعبر مقالي الاسبوعي، منذ عام في جريدة الشروق.

الالفة المميزة هي هي، والنقاشات الفكرية والسياسية ما تزال هي هي، في كل الجلسات وكل اللقاءات.  طبيعة ناس وطبيعة قضايا ، قضايا يظل العراق  في قمتها، ويتجدد فيها كل يوم موضوع فلسطين، وموضوع لبنان، كما يتجدد موضوع المتوسطية مع دعوة الرئيس الفرنسي، والمصلحة المشتركة  الممكنة، التي افسدها اصرار الجانب الاوروبي على ان ياتينا واحدا، بعد ان لقي احتجاج انجيلا ميركل على خطر شطر اوروبا الى اثنين، صداه، واتى اكله. وبعد ان بقي الرئيس الفرنسي مصرا على ما قاله قبل اشهر في العاصمة الجزائرية  من ان اسرائيل هي قلب هذا الاتحاد، حتى قبل حل الصراع العربي الاسرائيلي.

نقاشات حول العروبة، وحول الاسلام، حول المراة وحول الابداع، حول الخطر الذي يفوق كل ما سبقه من محاولات خرق شروخ في هذه الامة لتدميرها من داخل: الشرخ  بين سنة وشيعة، ذاك الذي توصلت اليه مخيلة عدو عبقري، ادرك ان كل الشروخات السابقة من عرقية  وطائفية عاجزة عن تجاوز مداها المحلي الى المدى القومي والاسلامي، لتكون معادلا موضوعيا للصراع العربي- الاسرائيلي، خاصة بعد ان تكرس بعده الاسلامي، وحده الشرخ السني الشيعي يمكن ان يشطر العالم الاسلامي من باكستان الى لبنان، ويؤمن مادة للتدمير الذاتي توفر على العدو تدميرنا، بل وتحيل بعضنا ( في الجهتين ) الى داعمين، بوعي او عن غير وعي لمشروع هذا العدو.

حديث عن الاعلام:  عن الموضوعية، عن مشاربع الانتاج التلفزيوني، عن معايير معينة في التلفزة والصحافة. الموضوعية وضرورتها عندما تعني كشف الحقيقة وهباؤها عندما تكون  كلمة حق يراد بها باطل، بحيث يراد منها خلق ادوات تكنوقراط، تجسد في احسن الاحوالذ لك الفارق بين المهندس المنفذ والمهندس المصمم.  تكنوقراط  قد يكونون ناجحين ولكنهم  من باب ” المنعفة التي لا تنفع كالجهالة التي لا تضر ”  وما النفع الا نفع المجال العام: قضايا الامة والوطن.

الانتاج التلفزيوني، الذي يطرح بعمق مسالة ان تكون مصدرا للرسالة الاعلامية او متلقيا لها فحسب، و ان تنجح في جعل طاحونة الفضائيات مجالا لتداول المال العربي، بدلا من منزلق لتسربه الى الخارج، ومجالا لتعميم الالفة بين اللهجات والعادات والتقاليد   والمواضيع. واخيرا لا اخرا مجالا لتعميق المفاهيم والقيم والجماليات، للتحديث والتجذير في ان، ونتفق على النموذج الايجابي الذكي الذي قدمته سوريا في هذا المجال، لكنني اذ الحظ ان الرغبة بالافادة من النموذج السوري قد تقتصر في دوافعها على  تمني مكاسب السوق، وعلى الاصرار على خوضه بعقلية كيانية انعزالية، انبه الى ان النجاخ السوري لا يعود فقط الى الشكل الفني ( الاساسي دون شك ) بل الى المواضيع التي استلهمت التراث  من شعاب حياته اليومية الى قممه الكبرى التي كم كان يحتاجها المتلقي العربي بعد الاحباطات الكبرى  التي امتدت من فلسطين الى العراق، والى اعتماد البحث العلمي قبل اعداد النصوص المعنية، وتقديمها بشكل ذكي  يبعد عن المباشرة والتلقين.

ازور الصحيفة التي يزورها قلمي كل اسبوع ، اشعر كانني عملت هناك منذ سنين   وافرح  لوبوجود  امراتين على راس التحرير والادارة – وليعذرني الزملاء الرجال،  خاصة رئيس التحرير المسؤول، اذ انه من المالوف ان نجد زميلا  في موقع قيادي في صحيفة سياسية  غير اننا نادرا ما نجد امراة، كما اننا  لا نملك الا وان نحمل بعض الانحياز لجنسنا، انحياز يعبر عن نفسه بالفرح عند لقاء نماذج ايجابية، والغضب  الحاد عند لقاء من تسيء بادائها لصورتنا، خاصة مع ما كل يعمل عليه الغرب من تشويه لهذه الصورة –  لم اكن يوما نسوية على الطريقة الغربية، ولكنني امنت بمقولة جبران: “المراة من الامة بمثابة الشعاع من السراج، ولا يكون الشعاع  ضعيفا الا  متى كان  الزيت شحيحا”، وامنت بان زيتنا لم يكن يوما شحيحا . كما امنت دائما بان تفعيل التطور الاجتماعي بشكل عام لا يكون باللطم  على الحالات السلبية  وانما بتقديم وترسيخ النماذج الايجابية، نماذج لا  تقبل بحصر نشاطها ونجاحها فيما يسمى صحافة المراة وادب المراة، لان ذلك ان هو الا اعتراف بالدونية، وبالقبول برياضات اصحاب الاحتياجات الخاصة .

فرح يكتمل  بلقاء مجموعة جديدة من الزميلات ( في الاعلام والكتابة والقانون  ): ليل ونسيم بحر يشبه في طراوته  نسيم المودة الرقيقة التي تنشا في الحالات الطبيعية بين  نساء يجمعهن شيء من الشبه، وشيء من التمايز، وتلقائيا اجدني ارد على سؤال: ماذا تحبين في تونس؟  “- الناس والبحر” . ربما كان ما احبه في الاثنين هو وجه الشبه بينهما: الرحابة!

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون