قبل اشهر كنت اسمع استاذا جامعيا عراقيا مقيما في اميركا يتحدث عن مشروع اميركي لانشاء مختبر ( اي دي ان) في الاردن ومن ثم نقله الى العراق، وتساءلت طويلا عن الغاية من انشاء مختبر علمي لهذا النوع من التحاليل. واليوم اسمع ان لجنة تحقيق فرنسية ستنبش قبر محمد الدرة لتثبت بفحص الان دي ان انه هو، واتساءل: هل سينتهون من احيائنا، ليتحولوا الى نبش قبور شهدائنا؟ واية مقارنة يمكن ان يقيمها هذا التدبير مع تحريم مراجعة تفاصيل جرائم الحرب العالمية الثانية: الهولوكوست.
على اية حال، الان دي ايه لن يكون كافيا لدفع التهة التي تقول بان الصورة الشهيرة التي تحولت الى ايقونة عالمية، هي صورة مركبة ومفبركة، وبان محمد الدرة لم يمت برصاص اسرائيلي، وان الجراح التي بقيت اثارها على ذراع والده هي نتيجة مواجهة بين جمال الدرة الفتحاوي والاسلاميين ( بحب تعبير المدعين ).
اما من هم هؤلاء المدعون، فرجل يدعى واللوبي اليهودي في فرنسا. حيث برز في العاصمة الفرنسية منذ شهور رجل انشا ما يسمى بمرصد عام للاعلام، وولم يلبث ان رفع قضية بوجه تلفزيون القناة العامة الفرنسية ( انتين 2،) ومراسلها في القدس شارل شامبرلين ومديرتها ارليت شابو، مطالبا هذه الاخيرة بالاعتذار عن نشر الصورة المشهورة لمحمد الدرة ووالده، والاستقالة. وعندما ترد ارليت شابو: لو ان محمد الدرة لم يمت، لكنا جاهزين للاعتذار للعالم كله. وبالتالي تتحرك الجهات الاعلامية الداعمة للمحطة وصحفييها، في فرنسا وفي فلسطين، وتتفق مع جمال الدرة على عرض نفسه على لجنة التحقيق واخراج جثة ابنه لتحليل الان دي ايه، يرد الادعاء بالقول ان الولد قد مات ميتة طبيعية قبل الحادثة المشهورة باشهر،. لتتصاعد المواجهة وياتي دور كاسحة الالغام المعروفة بالكريف ( اي المجلس الاعلى للمؤسسات اليهودية في فرنسا ) فيعقد مؤتمرا صحفيا ويطالب الرئيس نيقولا ساركوزي بالتدخل.
واضح لكل من تابع القضية انها رتبت من اسفل الى اعلى و من اعلى الى اسفل، وان هذا المرصد المزعوم الذي تصف صحيفة لو فيغارو مؤسسه بانه رجل غامض، وتورد تاريخه المهني فلا تجد فيه ما له علاقة بالاعلام او المصداقيات الاعلامية، لم يكن سوى المكلف بتنفيذ خطة، ليست قضية الدرة الا احدى حلقاتها. خطة تسير في اتجاهين: داخلي فرنسي يتعلق بالانقلاب الكلي الذي يجريه عهد سا ركوزي، وخارجي يتعلق بصورة كل من اسرائيل والاطراف المقاومة لها. وهما اتجاهان متلازمان ومترابطان سببيا.
ففي الجانب الاول يبدو واضحا ان الرئيس الجديد يحمل صورة يحمل ” صورة معينة عن الجمهورية ” ودورها لا علاقة لها بتلك التي كان يحدد ملامحها كل من سبقه مما يقتضي تغيير كل ما يتعلق بخصوصيات وصورة فرنسا كما راها وثبتها ا لفرنسيون منذ قيام الجمهورية. وبالتالي فانه ينفذ انقلابا يعمل كالجرافة الكاسحة في كل ما يتعلق بعهد الديغولية القديمة والجديدة، ومن ضمنها ما كان يسمى ب ” سياسة فرنسا العربية ” التي قال ساركوزي ساخرا انها عبارة لا معنى لها! وبالتالي باحد المبادىء لتي كانت تقوم عليها هذه السياسة، وهو مبدا التوازن بين العرب واسرائيل.
واذ يبدو العهد الجديد مصرا على العمل بعقلية التغيير الانقلابي، بما تحمله من كيدية، موجهة ضد كل من لا يتفق مع خطه، فان استهداف المؤسسات الاعلامية ياتي موازيا لاستهداف المؤسسات الاخرى. وابرزها قضية الصراع بين الرئيس وجنرالات الجيش، صراع ظل صامتا رغم ظهور مؤشره في احتفالات 14 تموز السابقة، عندما اصطف الجنرالات كالعادة لتحية الرئيس، لكنه انصرف عنهم دون اي انتباه كاسرا تقليدا بروتوكوليا وطنيا اساسيا، ويبدو ان الصراع ظل يتصاعد الى ان فجره واخرجه الى العلن حادث كاركاسون ( الغامض والمفتعل ) في الاسبوع الماضي، وما تبعه من اهانة الرئيس المباشرة لضباط القيادة واستقالة رئيس هيئة اركان سلاح البر الجنرال ، الشخصية المهيبة التي يحمل لها جميع الفرنسيين الاحترام والتقدير، ويشهد لها جميع ضباطها بالمناقبيات العالية والكفاءة الاستثنائية.
فهل ان صدور صحيفة لو فيغارو الفرنسية الهامة وعلى صفحتها الاولى قضية كاركاسون، وعلى الثانية، وبذات الحجم قضية الدرة يعني ان استعمال الحادثة الاولى، مدخلا للتغيير في الجيش، مشابه لاستعمال القضية الثانية مدخلا للتغيير في الاعلام؟ خاصة بعد الاجراء الذي سبق اتخاذه قبل اسبوعين، بمنع التلفزيون من تلقي الاعلانات واقتصار تمويله على الدولة، ما يمنحها الهيمنة الكاملة عليه. لتاتي بعدها اثارة قضية الدرة التي قد تؤدي الى تغيير طاقم التلفزيون الفرنسي – خاصة القناة لثانية –التي يلتقي في عدم الرضى عنها ( وبدرجات متفاوتة ) اللوبي اليهودي والرئيس الفرنسي. والاهم انها ستوجه رسالة لمن يبقى منهم ولمن ياتي بعدهم بان زمن ( اول تحول ) وان مقاربة موضوع اسرائيل والمقاومة الفلسطينية باتت محددة الخطوط والمعالم بما يتوافق مع الوله الذي ابداه الرئيس في زيارته الاخيرة الى فلسطين المحتلة. ومع الحاجة الى تبييض صورة دولة الاحتلال والصاق جرائمها ب…” الاسلاميين “.