مرة لا بد من التحرر من عقدة عدم امتداح حاكم عربي، لنقول ان الرئيس الليبي قد تحدث بلسان كل مواطن عربي عندما قال ان دعوى الاتحاد المتوسطي، بصيغتها المطروحة، هي اهانة للعالمين العربي والافريقي معا، داعيا الى التعامل مع هذين العالمين ككتلتين موحدتين عوضا عن العمل على تجزئتهما عبر طرح صيغ اتحادية تشطر كل منهما الى اقسام. وتجعل من اسرائيل اقرب الى سوريا من العراق او الاردن، والى مصر من السودان!!! معادلة لا تدخل الا في منطق زمن الغرائب الذي يرمي شباكه العنكبوتية على هذا الشعب العربي، وعلى حكامه. والذي لا يجعل من التجزئة اهانة، ولا من الدعوة الى التطبيع المجاني اهانة، ولا من الاستفراد ببعض العرب ضد بعضهم الاخر اهانة!! وليمض بنا الخيال النابع من منطق تدرج الامور وتسلسلها، الى تصور معاهدة دفاع مشترك بين اتحاد المتوسط هذا، وعندها سيصبح على مصر وسوريا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا ان تقاتلا بجيوشهما الى جانب اسرائيل اذا ما تعرضت يوما لنزاع مع العراق او الاردن او السودان. غير اننا وبعيدا عن الخيال نجدنا امام منطق ان هذه المعادلة نفسها هي ما يطرحه الاتحاد المتوسطي على الصعيد السياسي والاقتصادي منذ بدء الدعوة اليه. ففكرته ليست الا عملية تحوير وتشويه للفكرة المتوسطية التي اسس لها شارل ديغول، بحيث اصبحت تعني امرين: اولا، التطبيع مع اسرائيل، ومجانا ( وفق المبدا الاسرائيلي المعروف: التطبيع قبل التوقيع، الذي كانت تطرحه الدولة العبرية ودوائرها الصهيونية في العالم،على سوريا بشكل خاص وترفضه هذه الاخيرة بحدة من يتلقى اهانة ). وثانيا فتح الساحة العربية المتوسطية للاستثمار الشمالي الاوروبي، في وقت يقترب فيه هذا الاخير من حالة التماهي مع اسرائيل.
الخطر في الحالة الاولى يكمن في استهدافين واضحين: فتح باب التطبيع لمن كان يرغب فيه ولا يريد المجاهرة به بقوة، مراعاة للحس الشعبي، واحراج من لم يكن يرغب فيه، ولا يزال لكنه يجد نفسه مطوقا ومهددا بالعزل، داخل امته نفسها. وهنا لا بد من تسمية الامور باسمائها، حيث ان المستهدف الاساسي هو سوريا ( ومن ورائها لبنان ) حيث سيجد الاثنان نفسيهما بين دول وقعت المعاهدات وانتهى الامر، ودولة طبعت دون ان توقع وانتهى امرها على المدى القريب على الاقل، اي العراق، ودول تطبع عبر هذا الاتحاد المتوسطي. من هنا فان الانفتاح السريع ازاء سوريا من جهة حكومة ساركوزي، ليس الا تمتينا للطوق بقفازات حريرية، حتى اذا لم تنفع سنرى، وبسرعة، العودة الى الاخرى الحديدية. فدمشق دخلت المفاوضات، واعلنت عنها، مما يقتضي تشجيعها باقصى ما يمكن على المضي قدما وبسرعة في اتجاه التنازلات المطلوبة، تشجيع يمضي من التصفيق الاعلامي، الى الزيارات الفرنسية، الى الوعود المعلنة وغير المعلنة، وحتى منصة احتفالات 14 تموز. وليست زيارة فرنسا كلها الى لبنان في الاسبوع الماضي، في جزء كبير منها، الا تحرك ضمن هذا السياق نفسه. وهل هناك ما يجمع الطبقة السياسية المتناحرة في كثير من الدول الغربية الا مصلحة اسرائيل وضغط اللوبي اليهودي الصهيوني المتوزع على كل الاحزاب والتنظيمات؟
اما في الحالة الثانية، فان هؤلاء لا يتجهون الينا اقتصاديا الا تطبيقا للرؤية الاسرائيلية والاستعمارية التي تقول اننا شعوب تمتلك الكثير من الثروات ولا تستحقها، لذا فلا بد للمستعمر الغربي ان يضع يده عليها.. اجل ثروات يسيل لها لعاب ساركوزي وبرلسكوني ومن وراءهما، وفي مقدمتها غاز الجزائر ونفط ليبيا، تليهما الثروات البحرية والزراعية ، ولا تقل عنهما مشاريع الاعمار والتحديث، في جميع المجالات، هذا اضافة الى اهمية هذا المدى كسوق مستهلك من جهة، وكارض مثالية لاعادة توطين المشاريع خاصة بالنسبة للعمالة الرخيصة التي لا تتمتع في بلدانها بالتامينات الاجتماعية التي تلتزم بها الدول الاوروبية ازاء العاملين فيها ( وهذا ما تتم صياغته بالشعار البراق: الحد من الهجرة وزيادة الاستثمار في دول الاوطان ) . هذا المشروع الاقتصادي لن يؤدي الا الى زيادة انتفاخ جيوب الشركات الاوروبية والاسرائيلية، والمتعاونين المحليين معهما، على حساب شعوب دول الجنوب العربية، وهذا ما عبر عنه القذافي بخطابه الشعبوي المالوف قائلا : لسنا كلابا لترمى لنا العظام!
واذاكان ثمة من يردون على كل ذلك بالقول اننا لا يمكن ان نبقى خارج التجمعات الدولية لان العالم اليوم هو عالم الكتل الكبرى، لا الدول الصغيرة. وذلك ما ينطبق على السياسة كما على الاقتصاد. وبقول اخر غريب عجيب، من اننا نلتقي مع اسرائيل في اطار الامم المتحدة، فلماذا لا يكون ذلك في اطار الاتحاد لاجل المتوسط. فان المقولة الثانية لا تستحق الرد. فيما يبدو الرد على الاولى بديهيا لمن يريد ان يرى: ففي التجمعات الكبرى تكون الفائدة والغلبة دائما للقوي على حساب الضعيف، وللكبير على حساب الصغير خاصة عند تضارب المصالح. وهنا تاتينا فرنسا ومن معها من الدول المتوسطية الاوروبية ،باسم الاتحاد الاوروبي الذي تتمتن عراه يوما عن يوم، في حين نذهب اليها نحن فرادى ودون ان تنجح قمة ليبيا في جمع الاسد ومبارك، بل ودون ان يتمكن فؤاد السنيورة ان يشكل حكومته، لان تشكيلتها هي تشكيلة كل العرب. اوروبا انتهت من استقرار الدولة الامة واكتمالها، وانتقلت منها الى تشكيل اتحادها الاقليمي الذي يسير بخطى حثيثة نحو الاستقرار، ونحن لم نستطع بعد ان نحول الاتحاد المغاربي، او مجلس التعاون الخليجي الى اكثرمن حبر على ورق، اما سوريا الطبيعية، فرحم الله سكين سايكس بيكو وسكاكين الاعراق والمذاهب، في حين لم يعد لقب ملك مصر والسودان الا لقبا تاريخيا لمرحلة فاروق…. اما حلم عبد الناصر، وهيكل الجامعة العربية الهش، ومعاهدات الدفاع العربي المشترك، فقد سفحت كلها على مذابح ليس اقلها حفر الباطن، ونجاح قطر فيما فشل فيه عمر موسى في لبنان. لنفتح اعيننا جيدا ونرى اننا نذهب بهذه الحالة الى ملاقاة اوروبا الموحدة، والمتبنية لاسرائيل.