حقائق المقاومة.

صحيفة الخليج، 18-06-2008

منذ ايام لم تشرق الشمس كما اليوم في عاصمة الشمس ( كما يحب الفرنسيون تسمية عاصمتهم، رغم انها ليست كذلك ) ومعلق الاذاعة الذي يرافق قهوتي الصباحية، يؤشر الى ذلك برمزية وهو يتحدث عن ذكرى  اطلاق شارل ديغول للمقاومة الفرنسية  عبر النداء الشهير الذي وجهه من لندن. حديث يحملني – كما كل كلمة هنا الى  ذلك الهناك الذي يظل هنا بالنسبة لي اينما كنت – الى مقارنة متعددة الفروع مع  مقاومتهم ومقاوماتنا، من فلسطين الى لبنان الى العراق. احتفالهم بهذه وتامرنا على تلك، التفافهم حول هذه وانقسامنا حول تلك، الدعم الدولي لهذه، والحرب الدولية على تلك. واتوقف عند اسمين: لندن والولايات المتحدة. الاولى كانت مقر اطلاق وملجا المقاومة الفرنسية، في حين كانت  منصة اطلاق احتلال فلسطين، والتحضير لاحتلال العراق، والمشاركة فيه. كما كانت الثانية، جنودها الذين انزلوا في النورماندي  لينجزوا تحرير باريس، وجنودها الذين انزلوا في العراق لينجزوا احتلال وتدمير العراق. علاقة الغرب  بالغرب  مقابل علاقة الغرب بالشرق؟ ام صدفة التاريخ؟

بعد ردة الفعل الاولى اعود الى التدقيق: لا لم يكونوا ملتفين تماما حول مقاومتهم، فقد كانت هناك حكومة فيشي، ومثلها الحكومات التي تنام على ركبة المحتل عندنا، وكانت هناك نسبة المشاركة الشعبية التي لم تتعد 12 بالمئة من الشعب الفرنسي، كما اعلنت الاحاصاءات الرسمية في ذكرى انزال النورماندي قبل سنتين، وكانت هناك شريحة اللامبالين والخائفين. وكان على هذه ال12 بالمئة ان تقاتل المحتل النازي كما كان عليها ان تقاتل المتعاونين معه، ولعل المواجهة الثانية كانت اصعب من الاولى، كما هو الحال عندنا.

غير ان ثمة فارق مهم وهو ان المقاومة الفرنسية كانت تقاتل كجزء من معسكر الحلفاء الممتد من اوروبا الى الولايات المتحدة الاميركية، ضد معسكر المحور الممتد من اوروبا حتى اسيا. ولم يات انتصار المقاومة الفرنسية الا كحصيلة لهزيمة المحور وانتصار الحلفاء. ولعل هذا ما كان حال المقاومة الفلسطينية وقبلها الجزائرية خلال مرحلة الحرب الباردة والعالم ثنائي القطبين. لذلك وجدت هاتين المقاومتين الدعم اللازم خلال تلك المرحلة، وجاء انتصار المقاومة الجزائرية، جزءا من من محطات تلك الحرب، كما جاء تفرد الاميركيين بالعراق وسقوطه كجزء من نتائج  سقوط الاتحاد السوفييتي وانتصار المعسكر الغربي. هذا في حين عايشت المقاومة الفلسطينية  كل حالات الصعود والهبوط والمتغيرات الدولية، دون انتصار ودون هزيمة، بالمعنى النهائي. فهل ستعني هذه المقارنة الموضوعية املا ام ياسا بالنسبة لنا؟

للقراءة الاولى نجدنا نتجه نحو الاحباط، طالما انه لم يعد هناك كتلة شرقية تدعمنا، وطالما تفردت الولايات المتحدة بالجلوس على عرش العالم. ولكن التبين الموضوعي الاعمق يقود الى ثلاث  حقائق:

الاولى  ان احتلال فرنسا كان احد مجريات الحرب العالمية الثانية، ولذلك فانه حسم بانتهائها. في حال ان احتلالاتنا نحن هي مسالة اكثر تعقيدا واكثر تاريخية. لذلك فان المساحة الممتدة بين بداياتها ونهاياتها هي بالطبع اوسع وبفرق شاسع.

الحقيقة الثانية، ان المعادلات والتوازنات الدولية  هي عامل مؤثر حكما في مصير اية حركة تحرر وطني، ولكن هذه التوازنات ان هي الا متغيرات  متحركة باستمرار، مما يجعل ذكاء التعامل معها ( كرا وفرا – فعلا وانفعالا – تاثرا وتاثيرا – استغلال فرص والتحضير لفرص – ادارة للازمات ) شرط القدرة على الحفاظ على البقاء والتقدم بانتظار الحسم النهائي.  مبدا ينطبق على كل الظروف المحيطة وعلى راسها تفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم، وعودة تعددية الاقطاب. وحتى قبل ذلك تحرك مصالح الولايات المتحة نفسها.

الحقيقة الثالثة، ان كل القوى المقاتلة – وحتى المنتصرة – في الحرب لم تكن لتحرر فرنسا لو لم تصمد مقاومتها في الداخل والخارج.وتجذر وجودها في صميم شعبها. وتتمكن من حصر الانقسام، بين الشرائح الفاعلة، في شطرين فقط: شطر يتعاون مع الاحتلال، وشطر يقاومه ويجمع- حول قاسم مشترك واحد هو مقاومة الاحتلال –  مكونات هذا الشعب السياسية، من يمينه الى يساره، من الديغوليين الى الشيوعيين.   وذلك ما ترجم بتقاسم الحصص في الحكم، بعد التحرير ( على اساس حزبي لا على اساس طائفي او مذهبي او عشائري )، وعلى اساس مبدا المواطنة الذي يشكل اساس ” القيم الجمهورية ” التي اعتبرتها الجمهورية الخامسة اساس العقيدة الوطنية.

 

الحقيقة الرابعة، انه لم يكن من الممكن لهذه المقاومة  ان تعمل بدون تحالفات، اساسية وثانوية،  تدعمها. لكن  الجنرال ديغول، عرف، حتى في اقصى حالات ضعفه واضطراره للجوء الى حضن لندن، ان يكون حليفا لا تابعا، رغم محاولات تشرشل المعروفة بازاحته الى الموقع الثاني. وهذا  – وللتاريخ – ما فهمه ياسر عرفات، وحرص عليه طوال فترة قيادته، ومثله حسن نصرالله في تعاونه مع سوريا وايران. ولا نستطيع الحكم على المقاومة العراقية لانها لم تبلور قيادة موحدة بعد.

وهنا لا بد وان نتوقف عند ملاحظة  ان الكثيرين يبالغون في انتقاد المقاومة العراقية، سواء من حيث تاخرها في التوصل الى قيادة موحدة، او من حيث الاضطراب، والخط المتعرج في مسيرتها، او من حيث الشوائب الكثيرة التي تنبت على جوانب الدرب. لكنه لا بد للمنصف من ان ينتبه الى ان هذه المقاومة قد تكون الوحيدة في التاريخ التي تعمل منذ خمس سنوات، ضد اعتى قوة في العالم، دون اي دعم خارجي، حتى من اطراف امتها العربية وعالمها الاسلامي، بل وفي مقاومة رياح تامر تهب من هذين الاتجاهين. ولا يعتبر تدخل التنظيمات الاصولية الارهابية الخارجية  استثناءا على هذا التخلي لانه في نهاية الامر يضر المقاومة اكثر مما ينفعها.  واذا كان لا بد من الخروج من هذه الشرنقة الخانقة، فان الخروج لا يمكن ان يتحقق بدون قيادة موحدة، بشقيها السياسي والعسكري، لا تسقط في فخ العلانية والاستعراض، الا في حدود الضرورة القصوى.

الحقيقة  الخامسة، ان المقاومات العربية الثلاث: الفلسطينية، اللبنانية، والعراقية، هي في واقع الامر مقاومة واحدة، ان لم يكن على اساس الوحدة القومية فعلى اساس وحدة المشروع الاميركي – الصهيوني  الذي يستهدفها. وهذا ما يقتضي منطقيا وحدة معينة، او على الاقل تنسيقا معينا، سياسيا وعسكريا واقتصاديا… ما زلنا بعيدين عنه  سنوات ضوئية  تزيد كل يوم مع تصاعد الكيانية العربية نتيجة لتراجع المد القومي والوعي الستراتيجي، ومع تصاعد الخط المذهبي  الذي لم تهتد اليه عبثا مخيلة المخطط الستراتيجي العدو. كما تزيد ايضا مع تشظي المقاومتين الفلسطينية والعراقية من داخل.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون