من بين ايامه، ضم هذا الاسبوع، اليوم الوطني للحريات الصحفية. وهي مناسبة تثير في الذهن اكثر من تساؤل: منها ما يتعلق بمدى واقعية الكلام عن حريات صحفية، في وقت تصطدم فيه هذه الحريات بهيمنة اعلامية عالمية، وبهيمنة النظم الحاكمة او المسيطرة عبر الاحتلال المباشر او الاحتلال غير المباشر، المتمثل في الارتهان الاقتصادي اولا ومن ثم السياسي. كما تصطدم باستعداد جزء كبير من الجسم الصحفي لبيع قناعاته، او للتحول الى ابواق لهذا السيد او ذاك. مما جعل الاعلام دائما ساحة لسلوكين متناقضين: واحدهما يحوله الى سلعة مربحة ماديا وسلطويا، واخر يحوله الى ساحة نضال اخلاقي ووطني. وياتي على هامشهما ثالث من ذلك النوع الذي يقول: يا رب السترة! وكثيرا ما يتحجج بالمهنية كي لا يكون له لون ولا طعم ولا رائحة.
واذا كانت هذه الخريطة قد ارتسمت منذ بدا الانسان يعلن عن افكاره كتابة او صوتا وصورة، فان تجليها الواضح قد ظهر في الحرب العالمية الاولى عندما ابتكر الاميركيون نظرية الحرب السيكولوجية ووظفوها بشكل بارع في المعركة ضد المحور، ثم عادوا فطوروها ومعهم الاوروبيون ليجعل منها كل طرف سلاحا رئيسيا من اسلحة الحرب العالمية الثانية. ومن هنا كان تطور وسائل الاعلام ونظرياته مرتبطا في الغرب، منذ بداية العصر الحديث، بامرين: الحروب والانتخابات. ففي الاولى تكون الحريات الصحفية مصادرة لصالح ما يسمونه: ” اسباب الدولة ” اي اسبابها في الحفاظ على مصالحها، وفي الثانية تكون هذه الحريات مطلقة نظريا كونها تدخل في لعبة الصراع الداخلي ولكنها من ناحية اخرى مرتبطة بالعبة الانتخابية وما فيها من كل ما يقتضيه اللعب، من تحايل ولوي لعنق الحقائق، وتحوير، وتجميل وتشويه للوقائع، وكذب قد لا يكذب وانما يخفي جزءا من الحقيقة ويركز على جزء منها.
اما في ما كان يسمى بالكتلة الشرقية وما تبعها من انظمة شمولية فقد كان الاعلام صوتا واحدا، وخطابا موجها، لا مجال فيه للاخر ايا يكن رايه، وهذا ما اطلق عليه باحثو الميديا مصطلح: ” دعاية الدولة “.
وفي هذا السياق كنا نندرج على ساحة الاعلام العربي، باستثناء واحات قليلة، ازدهرت في مصر في مطلع عصر النهضة، ومن ثم في لبنان ونسبيا في الكويت، كما ازدهرت بشكل فردي عبر اصرار بعض المؤسسات الصحفية القليلة، وبعض الصحافيين على خوض معركتهم النضالية على ساحات الاعلام. وطوال القرن ظل هؤلاء يقاتلون على عدة جبهات في ان واحد: يقاتلون تكميم الافواه من قبل انظمتهم، ويقاتلون حرب الاجنبي المعلنة عليهم، ويقاتلون الكثير من القوى الخفية والزمر غير الراضية عن كلمتهم! وهكذا دفع الكثيرون لقمتهم، وحريتهم المدنية، وارواحهم ثمنا لاصرارهم على هذه الكلمة. لتسجل الصحافة العربية قائمة طويلة من الشهداء الذين نعرف اسماءهم لانهم قتلوا مرة واحدة، والشهداء الذين لا نحصي اسماءهم لانهم ماتوا مرات.
غير ان الجريمة بحق الكلمة والمعلومة لم تصل يوما الى ما وصلته في ظل الاحتلالين الاسودين في فلسطين والعراق، حيث حصد الموت دون تمييز كل شاهد على الحقيقة، حتى ولو كان انتماؤه الوطني او المهني مرتبط بدولة او مؤسسة محسوبة على العدو.
ولذا فان معركتنا الاعلامية مزدوجة في يوم الحريات: حرياتنا داخل بلداننا، من كمامة السلطات التي تخنقنا، وحرياتنا الوطنية من كمامة العدو الذي يصر على طمس معاناتنا وحقوقنا.