ما ان جاء اتضاح انحياز التيار الصدري الى عروبته والى موقف واضح حاسم من الاحتلال الاميركي لبلاده، ليحقق انجازين مهمين على الارض: تدعيم معسكر المقاومة العراقية، وانهاء الصبغة المذهبية عن هذه المقاومة، حتى خرج علينا ايمن الظواهري بتصريح ناري يزكي حفرة الخندق السني – الشيعي في المنطقة. لقد اعاد مقتدى الصدر فرز الاوراق بامانة تعكس الواقع: واقع كون الاصطفاف في العراق يقوم على اساس واحد: التعامل مع الاحتلال. اي بين معسكرين من يقاومه حتى الانسحاب واستعادة السيادة، ومن يعمل في ركابه مضحيا بالسيادة والحقوق الوطنية والكرامة.
واذا كان ليس من ينكر ان ثمة انقسامات طائفية وعرقية، حزبية وسياسية تتفاوت في عمقها، في صفوف الشعب العراقي، كما في جميع المجتمعات العربية ( وحتى الاجنبية )، فان الخلافات والاختلافات الثانوية تتضاءل وتتراجع الى المرتبة الثانية امام الاختلافات الجوهرية. الم يقاتل الشيوعيون الفرنسيون مع شارل ديغول اليميني ضد الاحتلال النازي؟ الم يقاتل القبائل ( البربر ) والعرب، معا، ضد الاحتلال الفرنسي في المغرب العربي ؟
غير ان ادراك المستعمر لهذه الحقيقة التاريخية هو الذي جعله يعمل قلب الاية، بحيث تتقدم الاشكالات المذهبية والعرقية على الاشكال مع الاجنبي، وبذلك تختلط الاوراق ويعاد توزيعها بشكل جديد يحقق مكسبين كبيرين للمستعمر: اولا، تحقق عملية التدمير الذاتي، التي تجعل كل جزء من المجتمع يدمر الجزء الاخر، وبالنتيجة يتدمر الجميع موفرين على العدو كلفة المال والرجال والمبرر.وثانيا تامين عمالة نصف البلاد مع هذا العدو، بشكل مباشر او غير مباشر.
معادلة تنطبق على العراق، كما تنطبق على لبنان، كما قد تنطبق على اي مجتمع مركب كما هو حال الدول العربية. معادلة ليس الاميركيون اول من يستغلها في الساحتين المذكورتين، كما في الساحات الاخرى، ولكن الجديد فيها هو هذه الوقاحة غير المسبوقة في المجاهرة بالتعامل مع العدو وفي التنكر للسيادة، وهذه الشراسة غير المسبوقة في المواجهة على الارض، سياسيا وعسكريا. غير ان الجديد فيها ايضا هو تركيز المخطط الجديد على شرخ جديد، هو الشرخ بين السنة والشيعة. شرخ هو وحده القادر على شق العالم العربي كله، بل والعالم الاسلامي كله، بحيث يخلق معادلا موضوعيا للصراع العربي الاسرائيلي، ويمزق الجبهة الكبرى المواجهة للمشروع الصهيوني في هذا الصراع.
واذا كان قد اريد لهذا الطاعون ان ينطلق من العراق لتجتاح رياحه المميتة الجميع، فان المخطط بدا ناجحا منذ تمكنت قوات الاحتلال والمتعاونين معها بالتواطؤ مع جهات شيعية القضاء على اول هبة قادها مقتدى الصدر ضد الاحتلال، مما مهد الطريق لحصر المقاومة بالسنة. دون ان تنفع دعاوى المنظمات غير الطائفية ( مثل البعثيين والشيوعيين والقوميين ) من وجود مناضلين شيعة في صفوفها.
وطوال فترة لا باس بها نجح ذلك في تصوير العراق نصفين: سني معارض للاحتلال وشيعي مهادن له.
كما نجح في اذكاء الاحقاد المذهبية عبر عمليات التفجير والخطف والقتل الوحشي. وارتفع الزبد بحيث معززا بمجريات الازمة اللبنانية، بحيث بدا فعلا وكان لمنطقة سقطت في الفخ وباتت تحترق بنار الفتنة السنية الشيعية، كامنة كانت او معلنة. فتنة تمتد من لبنان الى افغانستان: صفق اليهود بايديهم وطبوا بارجلهم ( ما تقول تورا تهم) لنجاح الخطة. وابتهجت كونداليزا رايس ونام ديك تشيني واوكلت الى ديفيد ويلش مهمة السهر على عدم انطفاء النار. غير ان تحرك الصدريين الاخير، وخروج مقتدى الصدر بذاته بحديثه المتلفز الاخير وتصريحاته المتكررة افسد اللعبة كلها، وبدلا من خلط الاوراق العشوائي، لترتيبها في اليد الاميركية الاسرائيلية، اعيد ترتيبها وفق موقعها الطبيعي، بالنسبة لاولوية اولى هي مواجهة الاحتلال. فلماذا خرج علينا الظواهري بندائه الغريب امشبع بالنفس الطائفي، ولماذا جاء هذا التصريح الموجه اولا ضد ايران ( قبل اميركا ) وكانه صدى لدعوة تسيفي قبل يومين من قطر لاقامة محور عربي – اسرائيلي ضد ما سمته الخطر الايراني؟