يقول المؤرخ الفرنسي جان بول بليد: ان التاريخ ولادة كبرى، يلد عند كل منعطف من منعطفاته كوارث لليعض هي في الوقت نفسه مكاسب للبعض الاخر. وها نحن نعيش واحدا من ابرز تجليات هذا المعادلة، اذ تحتفل اسرائيل بذكرى الستين على انشائها فيما نعيش نحن ذكرى الستين لنكبتنا. الاعلام العالمي ومعه الدوائر السياسية الغربية يصر على اطلاق التسمية الاولى ناسيا الثانية. مما يذكرني بعبارة صغيرة قراته في دليل السياحي الفرنسي المعروف بالدليل الازرق ، تقول: ” بعد كارثة حطين”.للوهلة الاولى اعتراني غضب شديد، لكنني لم البث ان انتبهت الى ان حطين هي فعر كارثة بالنسبة لهذا الكاتب الفرنسي حفيد لويس التاسع، الذي نسميه نحن ملكا اسيرا في المنصورة ويسمونه هم ” القديس لويس “. لكن هذه التاملات التاريخية تقودنا الى سؤال تاريخي مصيري: هل يمكن ان نصل يوما الى التعايش مع اسرائيل كما نتعايش اليوم مع احفاد الصليبيين؟ والجواب بسيط وذو شقين: الاول ان التصالح مع الصليبيين حصل بعد ان هزموا وعادوا الى بلادهم، وتركوا لنا ارضنا وبلادنا وحقوقنا، والثاني ان عصر الامبراطوريات الاوروبية قد انتهى، وترك هؤلاء خيارات الحرب الاستعمارية للانكلو ساكسون والصهاينة. هذا في حين تتحول المجتمعات الاوروبية نفسها، او هي تتحول، الى خيارات التعايش التعددي داخل مجتمعاتها هي، رغم انها تعمل على توظيف هذا التعدد وتشويهه لتدمير مجتمعاتنا نحن، ارضية للاضعاف والهيمنة، ولتحقيق هدف خفي هو جعل مجتمعاتنا المحيطة باسرائيل بيئة لا تكون فيها دولة يهودية قائمة على العنصرية الدينية، هجينا غريبا .
وليس من باب الصدفة ان نرى تفاقم الضعف والتفكك في العالم العربي، وصعود العصبيات الدينية، بل والمذهبية السياسية المتزمة الرافضة للاخر ، تترافق مع مجاهرة اليهود وحلفائهم اكثر من اي وقت مضى بيهودية دولتهم. فاسرائيل هي الدولة الاكثر تعددية في العالم ( باستثناء الولايات المتحدة ) لكنها في الوقت ذاته الدولة الاكثر احادية في العالم، حيث تؤطر جميع تعددياتها الاتنية والعرقية والقومية والثقافية في اطار واحد احد هو الدين اليهودي والايمان الصهيوني. وذاك لافتقارها الى ما يكون مجتمعا وامة، في اي مكان اخر من العالم، اي التعايش التاريخي الطويل بين المجتمع الانساني المكون للامة، وارض الامة المعنية، هذا التعايش الذي يشكل الخط الفكري التاريخي الذي يشكل الدين احد ملامحه لا كلها. وبما ان حقائق العلم والحياة تؤكد على هذا الواقع، اي ان ما يشكل مجتمعا وامة لا يمكن ان يكون الدين، حتى ولو كان لهذا الاخير دور كبير عامل حاسم من مكونات الثقافة، عامل هو في العمق ناتج لثقافة الامة، او متكيف معها، لا صانعا لها. فان التضامن داخل المجتمع الاسرائيلي سيظل مرهونا بثلاثة امور: اذكاء التيار الديني السياسي ( وذاك ما لا علاقة له بالتدين، فاشد الطائفيين لا يذهبون الى الصلاة )، والاحساس بالتفوق وبالتالي بالمصلحة، واخيرا الاحساس بالخطر الموحد.
اذا ما نقلنا هذه الشروط الثلاث الى مسار السياق العربي المحيط باسرائيل نجد وللاسف، ان المد الديني يصبح اقوى اكثر فاكثر، لا كايمان وعبادة ( وهذا ما لا نناقشه ) وانما كاساس سياسي للكيان، وكمصدر للمواقف.
هذا في حين ينحسر المد القومي الذي يفهم القومية خطا ثقافيا لامة قامت على التعددية في كل شيء ( الاديان، الطوائف، المذاهب، الاتنيات والاعراق، وحتى اللغات المحتضنة في كنف اللغة القومية الواحدة )، وبدلا من ان تؤدي بنا الحداثة الى تطوير وتفعيل هذه التعددية، في اطار المساواة المبنية على مبدا حقوق المواطن، تركنا الجهات المعادية تحول هذا الغنى الى قنابل عنقودية موقوتة.
ولا شك بان بقدر ما يضعف الموقف القومي التعددي هذا اسس الدعوى الصهيونية حتى لدى اليهود انفسهم، بقدر ما يقوي المنطق الديني السياسي هذه الاسس ويصلب الوحدة الصهيونية داخل اسرائيل وخارجها.
وعلى سبيل المثال فقد يرز ضعف هذا الموقف مؤخرا في مواجهة الكلام الاميركي لاسرائيلي عن الدولة اليهودية. فانت تريد دولة اسلامية وانا اريد دولة يهودية – يقول لك الصهيوني!
النقطة الثانية وهي الاحساس بالتفوق، وهذا ما سيظل قائما طالما لم يعمل العرب على تنمية حقيقية تدخلهم الى دائرة الامم المنتجة بقوة للعلم والفكر والصناعة والزراعة وادارة السوق، في عصر الثورة التقنية التي تلت الثورة الناعية التي لم ندركها نحن بعد. مشروع التنمية هذا لا ينقصه المال وانما االوعي والارادة لدى اصحاب القرار السياسي والاقتصادي. ارادة من الصعب ان تتحقق طالما ان الادارات الحاكمة العربية تراهن في بقائها على امرين: الخارج المرتبط بدوره باسرائيل، واضعاف المواطن وتجهيله وتعميته عن حقوقه.
اخيرا ياتي العنصر الثالث، اي الاحساس بالخطر الموحد، وهذا ما يراهن عليه المتحذلقين في تبرير الانبطاح الاستسلامي، بحيث اشاعوا مقولة ان السلام هو مقتل اسرائيل: نعم السلام مقتل اسرائيل عندما يكون الشرط الوارد اعلاه متحققا ويتحقق معه التفوق العسكري الضروري في مواجهة دولة ان هي الا قاعدة عسكرية. وعندما تجعل انتصارات عسكرية عربية الاسرائيلي يوقن بان دولته عاجزة عن ان تدرا عنه هذا الخطر.
اما في الراهن فان اي سلام لن يؤدي الا الى ما بدا بعض الدعاة الصهاينة يسوقون له اثر هزيمة 1973، من تهويد المنطقة سلميا بدلا من تهويدها عسكريا لان الاول اقل كلفة على اسرائيل ويهود العالم.