لم تكن كل دماء الفلسطينيين سببا لمجيء رايس الى المنطقة، وانما ما جاء بها هو مسالتان:
تدارك الاحراج الذي سببته الوحشية الاسرائيلية للسياسات الاميركية في المنطقة وفي العالم، و اعلان محمود عباس وقف المفاوضات.
فالدم الفسطيني انزرع في ارض غزة والضفة، وكان لا بد له ان ينبت سنابل مثقلة من قمح على البيدر الفلسطيني ومن زؤان على البيدر الاميركي ، لذا هبت رايس مسرعة الى الحقل لتحصد السنابل قبل نضوج قمحها وزؤانها، ولتقلب توزيع الغلة قبل وصولها الى اصحابها. ولتعيد عجلات القطار الى سكة الخريطة المرسومة اميركيا واسرائيليا.
لكن اللوم الاساسي ليس على رايس، فهي وزيرة خارجية دولة كارهة لشعوبنا مهما تبادلت القبلات مع مسؤولينا، وهي وزيرة في ادارة متصهينة اكثر من الصهاينة، ادارة لا تدين فقط بسلطتها للوبي اليهودي بل وتشاركه القناعات، وتتماهى معه عبر العديد من شخصياتها وستراتيجييها. بل ان اللوم على من قبل ان يقف الى جانبها شاهد زور على سم كلامها.
لقد كان بامكان الرئيس، بعد مجزرة غزة، ان يقف وقفة تاريخية وكبيرة، بحجم قضية شعبه. وقفة يجعل فيها من دم الفلسطينيين زيتا يعيد اضاءة قنديل الوحدة الوطنية ( وهذا ما كدنا نتفاءل به خلال ايام العدوان رغم كل تصريحاته السابقة، وظهور بعض التناقض بين الرئيس وبين رئيس الوزارة ووزير الخارجية اللذين بديا وكان ما في شرايينهما ماء من حقد وصقيع ). ومتسلحا بهذه الوحدة، كان بامكان الرئيس ان يرفض العودة الى المفاوضات، او يضع قائمة شروطه السياسية الاساسية ثمنا لهذه العودة. شروط من مثل وقف الاستيطان، وقف بناء الجدار، التراجع عن اعلان يهودية الدولة من قبل الرئيس بوش او وزيرته….
الرخويات قد تقول ان الرئيس الفلسطيني ليس بموقع قوة يسمح له بذلك. ولا نرد على هؤلاء بمنطق الابطال الذين يقولون ان القوة هي الارادة، وان الصمود والدم الفلسطيني هما قوة بخارية هائلة لقطار التاريخ الفلسطيني. بل سنرد بمنطق الواقعية السياسية التي تقول ان اول مدخل لقوة الرئيس هي العودة الى الوحدة الوطنية، وان ثمة عناصر قوة مهمة بيده الان تتاتى من ساحتين: الفلسطينية اولا: حيث نجد ان حملة الابادة الجماعية ” غير الحكيمة ” وفق تعبير رايس نفسها، قد احرجت الولايات المتحدة نفسها واحرجت حلفاءها وحلفاء اسرائيل من الااوروبيين ومن العرب. لذا كانت تلك فرصة ذهبية امام محمود عباس، لكنه وللاسف لم يحسن استغلالها، ولنا ان نتصور كيف كان سيتصرف ياسر عرفات ( على كل ما كان لنا عليه من ماخذ ) في ظرف كهذا! والساحة العربية والدولية ثانيا، حيث ان هذه الوحشية الاسرائيلية في غزة وفي بعض مواقع الضفة، قدمت للعالم صورة رهيبة عن الطبيعة الاسرائيلية، صورة من الممكن استغلالها سياسيا واعلاميا وتعبويا وعلى كل الاصعدة ( خاصة في اعادة كرة تهمة الارهاب من الساحة الفلسطينية الى الساحة الاسرائيلية وبقوة حاسمة ) غير ان ذلك لا يتحقق الا باجماع الفلسطينيين على تحميل اسرائيل واسرائيل وحدها مسؤولية ما حدث. مما يعني شرطا اساسيا: الا يقف فلسطيني واحد شاهد زور على اتهام حماس او غيرها يالمسؤولية، وبالتالي تبرئة اسرائيل. واذ نقول فلسطيني واحد من ملايين الفلسطينيين، فذاك لا يعني ما في الفلسطينيين، كما في كل شعب، من متخاذلين ومن خونة ومن مرتهنين، ومن مضللين، بل يعني الاصوات المسموعة من مسؤولين وقادة ( سواء قادة الراي العام ام القادة السياسييون ). فكيف الحال اذا ما كان هذا الواحد يمثل شرعيا كل الشعب الفلسطيني، وهو المؤتمن دستوريا وديمقراطيا وتاريخيا على قضيته؟
لم يكن كافيا على الاطلاق ان يستهل الرئيس الفلسطيني المؤتمر الصحفي بكلمة متوازنة، بل كان المطلوب منه ان يرد خلال الاسئلة على وقاحة الوزيرة الاميركية التي وقفت الى جانبه مبتسمة مبتهجة. ولكم تمنى المشاهد ان يسالها احد الصحفيين عن هذه الابتسامة التي لم تفارق وجهها طوال مؤتمرها، في حين مازال عويل الامهات يصم الاذان في مآتم ممتدة من غزة الى الضفة من حولها، اتراها لا تعرف ابسط اصول المجاملة في حضرة الموت والماسي ام اتراها مثل رئيسها لا تقرا الصحف ولا تنظر الى التلفزيون ولا تشم رائحة الدم، ام انها تفرح لكل هذا ويشغلها فقط ان المبالغة قد تشكل لسياساتها حرجا عليها تداركه وهذا ما قصدته ب ” غير الحكيمة”
اجل هذا وحده ما يشغلها، وبكل وقاحة عبرت عنه. فلا دماء الاطفال جعلتها تتحرج، ولا حجم المذبحة جعلها تداري ولو بمجرد صياغة الكلام. فبكل مباشرة قالت: ” يجب محاسبة حماس ولكن على اسرائيل ان تكون اكثر حكمة، وان تفكر بانه هناك غد وبعد غد… رغم انه لها الحق بالدفاع عن النفس “. اذن كل الموت الذي حصل في غزة هو مسؤولية حماس وابلة كوندي لم تات الى المنطقة الا لتبرىء ساحة اسرائيل ولتعد بارسال ضمادات وربما اكفان لضحايا غزة، لان الحس الانساني الاميركي لا يتحمل الا يهب للاغاثة. فقلبه رقيق ورئيسه سيقيم الدولة الفلسطينية قبل نهاية 2008، اي في الوقت الذي لن يكون بامكانه فيه اقالة موظف صغير من البيت الابيض، لانه قد يذهب قبل تنفيذ الامر، ولان مقتضيات الحملة الانتخابية الرئاسية تتطلب منه الا يغضب صوتا واحدا من الناخبين الاميركيين، هو الذي لم يصل الى الرئاسة الا بفارق اشبه بفارقة انتخابات بلدية في اي بلد عربي. فكيف بالاحرى اذا كان الاغضاب يمس اللوبي اليهودي الذي يصنع الرئيس، والذي كان وراء تزوير النتائج الانتخابية التي اوصلته الى رئاسته الاولى. اذن وهنا بيت القصيد، المطلوب منه الان هو ارضاء اللوبي، بفرض استئناف المفاوضات التي لا غاية لها في حقيقة الامر الا وجودها، سواء لتوظيفها في الحملة الانتخابية لصالح الجمهوريين، او للتغطية بها على فشل العراق وعلى التورط الحقير في لبنان، او لدعم الحليف الضعيف ايهود اولمرت، او اخيرا لابقاء الشرخ القائم بين الفلطسينيين انفسهم، وهذا اخطر المخاطر!
فكم من رائحة لحم الاطفال المحروق، ودم الشباب، وملح دموع الامهات، وغبار الركام يحتاج المسؤولون الفلسطينيون ليصحوا من تاثير رائحة الضبع التي تجرهم وراءها ومعهم قضية بلادهم نحو الهاوية؟!