كحبات العقد المنفرط تسقط المراهنات على الساحة اللبنانية. بدءا من المراهنة الاولى والكبرى على اغتيال الرئيس الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان، حيث بدا يومها للكثيرين ان نهاية المقاومة وانتصار المشروع اللبناني في صيغته اللبنانية اصبح امرا محتوما، يعوض الفشل العراقي، وربما يحول مجراه اذا ما تمكن من استيعاب النظام السوري او اسقاطه. وانتقالا الى المراهنة على الغزو الاسرائيلي في تموز، والذي ال الى فشل شكل المفاجاة الثانية بعد التحرير. بعدها تكررت التجارب وصولا الى مؤامرة نهر البارد، التي كان يرجى منها اهداف عدة، من بينها اشعال فتنة شيعية سنية في لبنان، تمتد الى الهشيم الاقليمي وتعزز الشرخ العراقي. واخيرا جاءت المراهنة على دور يقوم به المبعوث الفرنسي برنار كوشنير لصالح الاميركيين، خاصة بعد ان اصبح قصر بعبدا معروضا للايجار. والان وبعد ان فشلت كل هذه الرهانات تحول المسالة الى التعريب الرسمي – اذ انها كانت دائما معربة ومدولة واقعيا – ويامل الجميع ان تنجح هذه المحاولة كي لا نصل الى التدويل الرسمي.
لكن جملة تطورات ومفترقات ترتسم قبل وبعد اجتماع وزراء الخارجية العرب وقراره. لا بد من التوقف عند اثنين من بينها: الاول خطاب السيد حسن نصرالله وردات الفعل عليه، والثاني زيارة الوفد البرلماني الفرنسي لسوريا. فبالنسبة للاول كانت اهمية الخطاب في انه لخص بوضوح ما اسماه المشروع الاميركي في صيغته اللبنانية: تصفية القضية الفلسطينية من البوابة اللبنانية، الضغط على سوريا، انتهاج سياسات اقتصادية مدمرة للبلد، الحؤول دون تشكيل مؤسسات امنية وطنية فاعلة وغير مرتبطة بالمشروع الاميركي. غير ان الردود المباشرة على هذا الخطاب كانت من الاهمية بحيث تجاوزته دلالة. اذ شكلت تصعيدا واضحا كان اهم ما فيه ان رد حكومة السنيورة الحاد والسلبي لم يواجه برد من نواب الشيعة او قيادات حزب الله، بل كان اول من رد عليه الرئيس عمر كرامي، الشخصية اللبنانية السنية التي تحظى باحترام جميع اللبنانيين، سواء لتاريخه الشخصي ام لارثه السياسي المتمثل في شقيقه الرئيس الشهيد رشيد كرامي، ووالده المناضل الوطني الكبير عبد الحميد كرامي. الرئيس عمر كرامي استعمل تعبيرا لم يسبق له مثيل في حدته، عندما قال ان سياسة السنيورة هي: ” عهر سياسي “، وجاء الرد الحاد الثاني من الشيخ عبد الناصر جبري، نائب رئيس جبهة العمل الاسلامي السنية ايضا، عندما تساءل ما اذا كانت الصلاة تجوز على السنيورة بعد وفاته، باعتبار انها لا تجوز على خائن وعميل، ليتلوه الشيخ مصطفى ملص عضو مجلس علماء هيئة علماء المسلمين السنة في لبنان باداة اشد.
لا تكمن اهمية هذه التصريحات في حدتها، ولم نوردها اطلاقا استجابة للتصنيف الطائفي الكريه الذي شاع استعماله، وانما للدلالة التي تحملها، وهي دلالة اسقاط الرهان على اي شرخ سني شيعي – سني في البلاد، بل واسقاط الرهان الطائفي نهائيا،وتثبيت واقع ان الانقسام اللبناني هو انقسام سياسي بامتياز بين اتباع المشروع الاميركي الاسرائيلي في صيغته اللبنانية، وقوى المقاومة السياسية لهذا المشروع. واذا كان ثمة دلالة خاصة بالطائفة فهي التاكيد على الدور القومي والوطني الذي طالما اطلعت به الطائفة السنية في لبنان، والتاكيد كذلك على ان اموال الحريري، وخطط بندر بن سلطان لن تستطيع تغيير هذا المسار التاريخي.
اما المفترق الثاني، وهو زيارة الوفد البرلماني الفرنسي لسوريا، والذي اريد له ان يبدو مبادرة برلمانية مستقلة عن حكومة ساركوزي، فان اوساط العاصمة الفرنسية تعرف ان السفارة الفرنسية في دمشق هي التي قامت بكل الترتيبات، مما يعني بوضوح انها محاولة رسمية فرنسية للعودة من باب البرلمان بعد ان خرج كوشنير من الشباك. اي محاولة لتطبيع هادىء ودون ضجيج يعيد المياه الى مجاريها بين دمشق وباريس. لكن ثمة درسا يجب ان يكون الفرنسيون قد فهموه، والا فيجب على السوريين تذكيرهم به، وهو انه لا فرصة لفرنسا ولا لاوروبا كلها في المنطقة، طالما هي تصر على العمل مراسلا عند الاميركيين، فلماذا الوكيل في وجود الاصل؟ اليس من الطبيعي والحال هذه ان يفشل المعنيون عمل المبعوث القناع، قائلين: اذهب وليتحدث الينا من ارسلك! في حين ان الامر يكون مختلفا تماما عندما تكون اوروبا وفرنسا مستقلة السياسة والقرار والوزن. اوليست هذه هي المعادلة التي فهمها تاريخيا شارل ديغول وتبعه فيها كل انصار الاستقلالية في القارة القديمة؟ فهل يفهمها ساركوزي السعيد بامركته واسرلته الى حد ابتكار مصطلح ” الاسرة الواحدة “، كطفل وجد من يتبناه؟