البذلة السوداء الاوروبية الانيقة، لم تحتج الى ما احتاجه استبدال مشرف لبذلته العسكرية، وخريطة افريقيا الخضراء المستقرة حلية على الياقة لاتحمل فقط دلالة اللون الاخضر المعروفة بالنسبة للرئيس القذافي، ولكنها تحمل ايضا دلالة اخرى ليس من الصعب تبينها ايضا، لان الرجل قد اعلن منذ فترة انه ادار ظهره للعالم العربي والعروبة، وراح يبحث عن الزعامة المنشودة في القارة السمراء. فهل يمكن قراءة هذا البروش قراءة سينوغرافية لنقول ان القذافي اراده رسالة لاوروبا تقول: انا من يمكن ان يفتح لكم البوابة الافريقية. واذا كان ثمة صراع على البوابة السودانية، الغنية بالنفط، فها انا بوابة اخرى تاتيكم طوعا بدون صراع وبدون كلفة؟ بل انها تدفع لكم عشرات المليارات من الدولارات لقاء نصب خيمة في شوارع باريس، كما كتبت صحفية لوموند الفرنسية.
هذا الكلام ليس من باب التهكم ولا من باب التنافس العربي الافريقي وانما هو يؤدي الى مسالتين جوهريتين في الواقع الدولي والعربي اليوم.
الاولى هي مسالة الصراع على افريقيا والثانية هي مسالة الخيار الذي تتخذه الدول العربية، خاصة الافريقية منها، بين معسكرين دوليين قائمين. معسكران يتصارعان ايضا داخل اوروبا نفسها.
فاذا كان الرهان العالمي المركزي اليوم هو رهان الابقاء على هيمنة الولايات المتحدة بشكل احادي على قمة العالم، او العودة الى حالة التوازن الدولي بين كتلتين او اكثر، فان هناك اكثر من بؤرة تحدد مصير هذا الرهان. ومن اهم هذه البؤر ثلاث: اوروبا، العالم العربي، افريقيا. ففي الاولى صراع سياسي بين انصار الامركة وهم بالتلازم منحازون لاسرائيل، وبين انصار الاستقلالية الاوروبية وهم بالتالي دعاة سياسة التوازن فيما يخص فلسطين وسائر قضايا العالم العربي وذلك ما ترجم بشكل واضح في المانيا بين خطي شرودر وميركل وفي فرنسا بين خطي شيراك ساركوزي ومن وراءهما . اما في العالم العربي فلا داعي لتفصيل انصار المشروع الاميركي وضميره المستتر الاسرائيلي، وبين معسكر المقاومات والممانعة. اما في افريقيا فان الصراع ياخذ الان اشد وجوهه العسكرية والسياسية، بين الوجود الاميركي والوجود الاوروبي والوجود الصيني والروسي. وكل ذلك في اطار دولي تحاول فيه قوى كثيرة وعلى راسها روسيا والصين تشكيل كتلة جديدة تؤمن التوازن مع المحور الاميركي ؟ خاصة بعد تنامي وبروز حلف تشنغهاي الذي يضم هاتين الدولتين الكبريين كما يضمن مجموعة كبيرة من الدول الاسيوية والاسلامية. وهو الحلف المرشح مستقبلا لاقامة توازن من نوع ما مع حلف شمالي الاطلسي الزاحف على اوروبا الشرقية. ترشيح من الممكن ان يصبح اكثر قوة وان يختصر زمن العودة الى التوازن فيما لو تحققت الستراتيجية الروسية في اقامة منظمة او على الاقل تحالف بين الدول المنتجة للغاز وفي مقدمتها: روسيا،ايران، الجزائر وقطر. رباعية تصبح فيها الجزائر بيضة القبان اذا ما اخذنا بعين الاعتبار مواقف ومواقع الدول الثلاث الاخرى. كما تصبح دول شمالي افريقيا العربية بيضة القبان في مسالة الدخول الى افريقيا كلها، وفي مقدمة هذه الدول تلك الممتلكة للبترول اي ليبيا والسودان. السودان قرا الخارطة ومد يده الى الصين، فاعلن الاميركيون وحلفائهم الحرب عليه.
بناءا على كل هذا نصل الى السؤال: اذا كانت ليبيا ( ومثلها الجزائر قبل اسبوعين ) بحاجة الى الانتماء الى جبهة دولية – وتلك طبيعة تشكل موازين القوى في عالم العولمة، وحتى قبله، واذا كانتا تحتاجان الى انواع من التكنولوجيا المتقدمة من عسكرية وغير عسكرية، فلماذا لم تول وجهها نحو روسيا او نحو الصين كما فعلت ايران وتفعل السودان؟ بل ان السؤال السياسي الذي يؤرق كل متابع هو ذلك المتعلق بشح العرب المطلق ازاء حكومة شيراكية ديغولية وكرمهم المتدفق ازاء حكومة ساركوزية متامركة منحازة علنا لاسرائيل. خاصة وان السلاح الاقوى الذي استعمله هذا الفريق للانتصار على الفريق الاخر هو الازمةالاقتصادية الخانقة والمفتعلة التي حشرت فيها فرنسا بعد حرب الخليج؟ ( سؤال ينطبق حرفيا على المانيا شرودر وميركل ) . لقد بدا العهد الشيراكي بدعم القضية الفلسطينية مما جعله عرضة لوابل نيران مادلين اولبرايت، وعارض الحرب على العراق بشكل حاسم وشجاع مما جعله عرضة لشتائم دونالد رامسفيلد، واتخذ موقفا مبدئيا متواصلا وحاسما على الصعيد الدولي ازاء التفرد الاميركي بالهيمنة على العالم ووقف في وجه الولايات المتحدة في المؤتمرات الدولية فيما يخص كل القضايا البيئية والانسانية التي تهم العالم، بل وقاد اوروبا في هذا السياق الذي كان من شانه ان يعيد بشكل اسرع التوازن الى العلاقات الدولية مما يصب في مصلحتنا نحن العرب قبل غيرنا . ولاجل عودة التوازن هذه، قام المحور القوي الذي تبنى كل هذه القضايا بين موسكو برلين وباريس. كان من الطبيعي ان تعلن ادارة جورج بوش واللوبي اليهودي العالمي كل قدراتها لافشال هذا المحور وهذا التوجه، بدءا باسقاط غيرهارد شرودر، وانتقالا الى تفشيل شيراك ودوفيللوبان بعد ازاحة الان جوبيه، وقد اعتمدت بشكل رئيسي على تفعيل الازمة الاقتصادية الخانقة في كلا البلدين، كما على بعبع الارهاب.
واذ نجحت في الخطوات الاولى في تحقيق ايصال رجالها مكان هؤلاء المغضوب عليهم صهيونيا واميركيا، كان نيقولا ساركوزي اكثر هؤلاء الرجال وضوحا في امركته واسرلته. بل انه اعلن قبل انتخابه انه سيفك محور موسكو برلين باريس كذلك لم يحاول ان يجامل او يحابي في ولائه المطلق لاسرائيل، ونقضه النهائي لما يسمى بسياسة التوازن ازاء قضية الشرق الاوسط. بل انه لم يتورع عن التعبير المصر عن ذلك في الجزائر نفسها عندما اثار بوتفليقة قضية الاتحاد المتوسطي وقيام الدولة الفلسطينية، اذ رد عليه بان ما يجب تامينه اولا هو امن اسرائيل. وكذلك رد على القذافي الذي قال ان مشكلة الاتحاد المتوسطي هي وجود اسرائيل بالقول ان اسرائيل هي قلب هذا الاتحاد.
لذلك لا يمكن للاتفاقيات التي حصل عليها الا ان تفهم بانها دعم لمحور الامركة داخل اوروبا، وتفشيل لمحاولة اعادة التوازن الى العلاقات الدولية، وخدمة الحفاظ على بقاء هيمنة الاحادية الاميركية، وبالتالي بقاء الهيمنة الاسرائيلية. بدليل انه لو اعطي نصف هذه الاتفاقيات لحكومة جاك شيراك لضمنا بقاء خط فرنسي متوازن ازاء القضايا العربية. لكنهم على العكس يكافئون من يحارب قضايانا، وينحاز لاعدائنا، فمقابل ماذا؟ اللهم الا ان الدول العربية قد قرات خريطة المحاور الدولية المقبلة وقررت الانحياز الى المحور الاميركي، والحؤول دون قيام محور مواز موازن. مكافاة لكل من اميركا واسرائيل على احتلالاتهما وامتهانهما ونهبهما، عملا بالمثل الشعبي ” القط يحب خناقه “. او ان الامر ابسط من ذلك، اي ان هذه الانظمة عاجزة عن قراءة اية خرائط الا خرائط قوى المعارضات الداخلية لها، وعن التطلع الى اي مستقبل الا مستقبل الحفاظ على الذات والتوريث؟