سؤال قديم جديد، اثارته في الذهن مقالة رائعة للاستاذ علي الصراف نشرت في جريدة العرب الصادرة في لندن، ومن ثم على موقع التحالف الوطني العراقي، تحت عنوان: المسيحيون العرب اهلنا وملحنا، لماذا يظلمون.؟ وهي مقالة تتضمن نفسا وحسا صحيّين في زمن تفشي الامراض العاملة على تعميق المشرط في جسد الوطن المريض. ومع اعجابي بالمقال وتقديره، اسمح لنفسي بان استكمله بالملاحظات التالية:
- ثمة بديهية تاريخية لا ينتبه لها الكثيرون وهي ان بلاد الشام، بل وسوريا الطبيعية كلها لم تكن تضم وثنيين عند مجيء الاسلام، فمن اين جاء هذا العدد من المسلمين الذي يشكل اليوم غالبية البلاد؟ انهم مسيحيون اعتنقوا الاسلام وهذا ما يشهد عليه ببساطة بليغة توزع العشيرة الواحدة بل والاسرة الواحدة، على مختلف الطوائف والاديان ( فاخوري، عطية، عيد،جمال، شهاب،جبور،الخ…..)
- هذه الملاحظة تقود الى اخرى تاسيسية، وهي ان تعدد الاديان في العالم العربي، وتحديدا في المشرق، لا يعني تعدد الحضارات والثقافات، وذلك لان الشعب الواحد هو الذي تلقى المسيحية ثم الاسلام، حيث كان قدره ان ينبتا من ارضه او يهبطا عليها. وبالتالي فقد جاءت التعددية نتيجة استمرارية مراحل لدى الشعب الواحد والحضارة الواحدة. في حين يختلف الامر بالنسبة لاوروبا او اميركا. حيث ان وجود الاسلام كان طارئا وحديثا ونتيجة هجرات المرحلة الكولونيالية ونهايتها وبالتالي فقد شكل تعدد الاديان، تعدد حضارات وتعدد ثقافات وتعدد اعراق. اما في الولايات المتحدة، فان الشعب قد تشكل اصلا من هجرات، تحمل كل منها معها اتنيتها وقوميتها ودينها وثقافتها وحضارتها، ولذلك فان كلا الاثنتين تسعى لاقامة الحوار الداخلي الذي يؤمن صهر كل هذا، كل بطريقتها، لتامين سلامها الاجتماعي ( في حين تعمل على استغلال تعدديتنا لتدمير سلامنا الاجتماعي ووجودنا الوطني والحضاري ).
- من الناحية التاريخية ثمة ايضا ما يغفله الدارسون فيما يخص بدايات الاسلام الاولى، وتحديدا عبور الاسلام من الجزيرة العربية الى بلاد الشام ومن ثم العراق. وناخذ ما احاط بمعركتي مؤتة واليرموك نموذجا.
- بدءا بتاريخ مؤتة، الذي يعود الى نهاية عام الوفود، مما يعني انه ما ان استقرت الامور للرسول، في الجزيرة العربية، حتى تحرك باتجاه بلاد الشام. غير ان هذا التحرك لم يات ارتجاليا حيث سبقته اتصالات لعقد تحالف مع امير غسان في بصرى، وذلك ما لم يكن يغفله البيزنطيون المسيطرون على البلاد، كما يراقب كل مستعمر قوة ناشئة في جزء متاخم لمنطقة سيطرته، ولكن ايضا لمعرفة هذا المستعمر بالرابط الذي يجمع عرب الجزيرة بعرب الشام. لذلك شددوا رقابتهم على الحدود، مما جعلهم يلقون القبض على مبعوث الرسول الى الامير المذكور ويقتلونه. هنا جرد الرسول حملته الى مؤتة، ليس للانتقام كما تقول التفسيرات الساذجة والمتاثرة بالعقلية البدوية الثارية التي جاء محمد لنقضها، بل ولخوض معركة استطلاعية يفهم جميع العسكريين والسياسيين ضرورتها قبل معركة اليرموك ( والدليل توجيهات الرسول للقادة الثلاثة الذين امرّهم، وتوقعه لاستشادهم، وقرار خالد، الذي تولى الراية بعدهم، بالانسحاب، وقول الرسول لمن نعت العائدين ب ” الفرّار “: ” انهم الكرّار باذن الله!”.
اذن كان التحالف القومي ضد المستعمر البيزنطي، قد اصبح قائما بين غساسنة الشام العرب المسيحيين، وعرب الجزيرة المسلمين، وهذا ما تجلى في معركة اليرموك حيث عرف الرجل الذي كان دليل خالد فيها، كواحد من عشائر الغساسنة في البلقاء ( الاردن الحالية ) وهو من قال عنه الرسول بعد النصر: ” هذا رجل اعزّه الله في الجنة ” ومنها حملت هذه العشائر الى اليوم ” لقب: العزيزات ”
من ذلك نعبر الى حماية الامويين لملكهم بالعشائر العربية والمسيحية منها كتغلب، وشاعرها الذي كان ” يدخل على عبد الملك وصليبه على صدره ولحيته تنفض خمرا ” كما كتب المؤرخون.
واذا ما لاحظنا واقع الجيوبوليتيكا، وجدنا ان معركتي حسم قيام الدولة العربية الاسلامية، جاء بمعركتي اليرموك والقادسية، واحدة ضد بلاد فارس، وواحدة ضد بلاد بيزنطة اي تركيا الحالية. كما ان انهيار الدولة في نهاية المرحلة العباسية جاء على يد دخول هاتين القوتين في جسم دولة الخلافة. وبذلك تظل الجغرافيا هي ما يحدد تجاذبات الهيمنة مهما اختلفت التسميات والعقائد المعتنقة. ويظل ان هؤلاء الذين يعيشون على جغرافية الوطن العربي، من مسيحيين او مسلمين او غيرهم، هم شعب واحد، ايا تكن المراحل التي تتعاقب عليه، شعب يعيش منذ اربعة عشر قرنا في سياق حضارة عربية اسلامية لم يصنعها المسلمون وحدهم، ولم يكن المسيحيون يوما خارجها، بحيث لا تجوز عليهم تسمية: المسيحيون العرب، لانها تقدم الانتماء الديني على الانتماء الوطني، كما لا تجوز تسمية: المسلمون العرب، او الدروز العرب. بل هم العرب المسيحيون.