” الصراعات المنخفضة السرعة تعني ان يموت الاف الناس ولكن ببطء اكبر من حال اطلاق قنبلة عليهم او حصدهم بغارة جوية. هذا يعني ان تصيب قلب بلد بالوباء، تزرع فيه ورما خبيثا وتجلس تراقب نمو المرض. وعندما يصل الامر بالشعب الى الخضوع او الى الارهاق حتى الموت، والنتيجة هي هي في الحالين، وعندما يستقر اصدقاؤك الشخصيون، العسكريون او الشركات المتعددة الجنسيات، في السلطة، عندها، يمكنك الذهاب الى امام الكاميرا ت لتعلن ان الديمقراطية قد انتصرت. كان هذا اسلوب عمل الولايات المتحدة في العالم خلال النصف الثاني من القرن الماضي وكانت ماساة نيكاراغوا هي النموذج االاكثر دلالة. ”
هذا النص كتبه الاديب المسرحي البريطاني هارولد بينتر في الخطاب الذي القاه في حفل تسلمه جائزة نوبل للاداب عام 2005. واذا كان الاديب المناضل قد خصص ربع الخطاب بالتالي للعراق، والدور الاميركي فيه ناعتا الاحتلال بانه “عمل عصابات، عمل فاضح من اعمال ارهاب الدولة، عملية عسكرية اعتباطية تم تبريرها بسلسلة من الاكاذيب” مضيفا: ” لقد حملنا التعذيب، القنابل الانشطارية، اليورانيوم المخضب، القتل الجماعي الاعمى، البؤس، الاذلال والموت الى الشعب العراقي وسمينا ذلك الحربة والديمقراطية “، فانه – أي بينتر – قد اعتبر ان اميركا كرست بذلك انتقالها من اسلوب الصراعات المنخفضة السرعة الى اسلوب الصراعات العالية السرعة، أي اسلوب التدخل المباشر بالقوة العسكرية النظامية الساحق والعلني ” مبرهنة عن احتقار مطلق لمفهوم القانون الدولي.”
غير ان واقع الامر يعيدنا الى مقال كتبه رئيس الاركان الاميركي في مجلة جينز العسكرية في اول اذار من عام 1990 بعنوان: الصراعات المنخفضة السرعة، يتناول فيه الخطر العراقي – بحسب تعبيره – ويناقش افضل الاساليب للقضاء عليه، ودور الولايات المتحدة، التي لايجوز لها بان تسمح بنمو قوة عسكرية واقتصادية خطرة في منطقة حساسة كمنطقة الخليج العربي، بل والشرق الاوسط الذي يضم النفط واسرائيل والموقع الستراتيجي المواجه لاسيا واوروبا، وانه عرض فيه للمفاضلة اللوجستية بين عدة اساليب لنقل القوات الاميركية الى المنطقة.واذكر انني استعرت عنوانه يوم 19 اذار نفسه لاكتب ان علينا ان نحذر من انزال قوات اميركية في الخليج ومن اثارة فتن داخلية سوف تثيرها اميركا واسرائيل في العراق.
وجاءت حرب 1991 لتترافق بالفتنة الكبيرة في الجنوب العراقي، وليليها الحصار المكرس لاضعاف البلد وانهاكه قبل توجيه الضربة القاضية. لكن اميركا وجدت نفسها وللمرة الثانية ، بعد الاحتلال، مضطرة الى الى الابقاء على اسلوب الصراعات المنخفضة السرعة، بل الى المزج بين الاسلوبين معا، لان المقاومة العراقية قد فرضت ذلك. فالاجتياح العسكري قادر على تحقيق الاحتلال لكنه غير قادر على الاطلاق على ارساء استقراره وهيمنته. واصدقاء اميركا وبريطانيا من العسكريين او الشركات كما قال بينتر، هم اعجز من ان يحموا انفسهم ويحمو استقرارهم في السلطة ويمرروا المشروع الاقتصادي السياسي للامبراطورية. والارجح ان هذا المزج بين الاسلوبين لم يكن قرارا لاحقا كما يقول الكثيرون ممن يعتقدون ان المقاومة العراقية فاجات المحتلين، فربما تكون قد فاجاتهم بحجمها، ونوعها: بمعنى انهم لم يكونوا يتوقعون التفاف معظم قطاعات الشعب والقوى السياسية العراقية حولها، بما فيها القوى التي كانت معارضة لصدام حسين، وذاك لجهل غبي بمفهوم الحرية والكرامة لدى الشعوب عامة ولدى شعب عريق كالشعب العراقي ثانيا. وربما تكون المفاجاة الاكبر بالنسبة لهم هي عجز حلفائهم او بالاحرى عملائهم عن دور امني فاعل، وعن تحقيق اصطفاف شعبي ذي قيمة تذكر. مما جعل الحاجة الى تفعيل الصراعات المنخفضة السرعة عبر اثارة كل انواع التجزئة و الاحقاد وفي مقدمتها الحقد الطائفي. تفعيل يصب في صميم الدور الاستخباراتي للاحتلال وعملائه و ” اصدقائه “. دور كان اقدر من ينظمه الخبير العريق الذي سبق وان نظمه في اميركا الجنوبية، بعد ان ورثه من فييتنام: رجل الاستخبارات الذي ارتدى ثوب السفير ( كما يحصل غالبا ) نيغروبونتي. والذي لم يترك العراق الا بعد ان اطمان الى ارساء خطته كاملة.
واذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان هذا التحليل المنطبق على العراق، هو هو ما ينطبق على ما يحصل الان في لبنان ( مع استبدال اسم نيغروبونتي باسم فيلتمان ) وما يحصل في فلسطين بشكل او باخر، فاننا نستطيع ان نتبين مدى الخطر المحدق بامتنا كلها، اذا ما استمر نمو الورم السرطاني الذي يزرعه اعداؤها في قلبها. واذا لم تتنبه قوى االدفاع الذاتي لهذا الجسد الى مهمتها. مع تساؤل مر لا يمكن الا وان يواجهنا حول قوة جهاز المناعة الطبيعي عندنا، وحول الطبيعة المزمنة لامراضنا.
في هذا الاطار وفيه وحده يمكننا ان نفهم التسويق الاعلامي لما حصل خلال تنفيذ اغتيال الرئيس صدام حسين، حيث لم يكن من الصدفة او التلقائية اطلاقا ترديد الهتافات ذات الصبغة الطائفية الصرفة و الناطقة تحديدا باسم الصدر. وانما هي عملية مبرمجة بدقة لصب بئر نفط على نار الاقتتال الطائفي، ليس في العراق وحده بل وفي العالم العربي والاسلامي كله. وبعدها لن يكون هناك باس لا على اميركا ولا على اسرائيل اذا ما انسحبت قوات الاحتلال من ارض العراق، بل سيكون من الافضل لها ان تنسحب وتدعم عملاءها، كي لا تتحمل اية مسؤولية وكي تقطف مجانا ثمار التدمير الذاتي الماحق.خطر رهيب لا يمكن لردات الفعل المتبادلة، المشبوه منها والعفوي الجاهل الا وان تقرب تحققه على جثتنا. فهل يتنبه المخلصون؟ وهل يمكنهم ان يطفئوا النار قبل فوات الاوان.