البعض يبني قواعد عسكرية والبعض الاخر يحتج على جنون العسكر، عبر المسرح. والخبران من الصحافة الاميركية نفسها، وبخصوص البلد نفسه، البؤرة التي يدور عليها الرهان الخطير حول مستقبل الامبراطورية وبالتالي مستقبل العرب والعالم.
طلاب ويلتون كوليج، لم يفعلوا الا انهم جمعوا ما تورده الصحافة ومواقع الانترنت على لسان الجنود الاميركيين الموجودين في العراق او العائدين منه. ومن هده الاقوال الشهادات ولفوا نصا مسرحيا، قاموا باخراجه وتمثيله، لكن عميد الكلية منعهم من تقديمه، فلجؤوا الى الفنانين المحترفين، الدين لبى ثلاثون من مشاهيرهم النداء ووقعوا بيان تضامن مع الطلبة. بيان لم ينفع في اقناع العميد لكنه نجح في اقناع عدد من مسارح نيويورك المحترفة فاستقبلت الطلاب ومسرحيتهم. وقدمتها لجمهور الولاية.
المراسل الفني لصحيفة كريسستيان مونيتور كتب في عدد يوم 12-6-2007، معلقا على العرض بقوله: ” تصف المسرحية بواسطة الغرافيك العنف الدائر هناك، في جو من الغموض الاخلاقي الذي يوحي بان الحرب لم تكن محايدة ” ومن ثم يعمد الى سوق بعض العبارات المؤثرة التي ترد على لسان الممثلين الذين يؤدون دور الجنود الحقيقيين من مثل دونالد هيدسون الذي يتساءل: ” لماذا نستمر في هدا البلد الذي لا يريدنا؟” او جيف ليونارد المكلف بالاهتمام بالجنود الدين يصابون بانهيارات عصبية وازمات نفسية وهو يصرخ: ” لقد مللت من رؤية شباب يبكون وينهارون وهم في عز قوتهم ” او ثالث يورد تعليقا خطيرا: ” الناس يقولون ان العراق كفيتنام، مما يجعلني اتساءل: اين هي الفيتنام؟ وهل كان لنا الحق في محاربتها؟ ”
غير ان مراسلا اخر، لصحيفة اخرى كان في هدا الوقت منشغلا بموضوع اخر، لا علاقة له بالمسرح الا من باب كونه ينطلق من حقيقة الواقع، ليقيم واقعا خاصا به، يحاول ان يقنع الناس بانه الحقيقة. مع فارق كبير في حالة ما نقله المراسلان هنا، هو ان ما دار على خشبة المسرح كان حقيقة لا كدب فيها، تنقل الواقع الاميركي في العراق كما هو، في حين ان ما اعلنه المسؤولون الاميركيون من تصريحات حول القواعد الاميركية في العراق، هو كدب وتمثيل يتنافى تقرير مراسل الواشنطن بوست، توماس ريك، اثر زيارته في العام الماضي لقاعدة بلد اير الواقعة على بعد 86 كلم شمالي بغداد. في هدا التقرير الدي نشر بتاريخ 4-2- 2006- يصف ريك القاعدة الاميركية قائلا انها مقر وحدة خاصة مهمتها العمليات الدقيقة، تتسع لعشرين الف عسكري، مكيفة، محاطة باسوار عالية، سرية، ومزدودة باتصالات هاتفية وتلفزيونية وانترنت وفق احدث المواصفات، تتضمن اربعة مطاعم بينها تلك التي بات اسمها مرادفا لانتشار نمط الحياة الاميركية في العالم: سابوي، بوبيز، بيرغر كينغ، ومقهى ستاربوك، كدلك مستشفى ومدرج كبير يتسع ل250 طائرة،… باختصار- يقول المراسل – جزيرة اميركية محصنة وسط ارض معادية.
وصف ريك هذا، لا يترك مجالا للشك بانها ليست قاعدة مؤقتة حتى ولو كان المسؤولون الاميركيون يصرون على ايهام الناس بذلك
فقبل نشر التقرير باسبوعين كان كيميت، نائب القائد العام للاحتلال لشؤون التخطيط والستراتيجية، يصرح: ” لقد سلمنا الامن في مساحة كبيرة من الاراضي العراقية للعراقيين، والامر لا يتعلق بمخطط مؤقت بل انها سياستنا التي تقوم على عدم الابقاء على اية قاعدة دائمة في العراق ” فيما يلتقي مع ما قاله دونالد رامسفيلد عندما كان وزيرا للدفاع، نحن لاننوي اقامة قواعد دائمة في العراق، حتى اننا لم نتحدث في هذا مع الحكومة العراقية ” وبعدهما جاء طوني سنو ليؤكد على ان: وجود القوات الاميركية في العراق، لخدمة امنه الداخلي وليس لمهاجمة اية دولة اخرى.
ولكن ما قيمة التصريحات، بعد ان اصبح الكذب ميزة السياسة الاميركية، فهل من كذب لا يهون بعد اكذوبة اسلحة الدمار الشامل؟ وهل يمكن ان ينفق البنتاغون عشرات القواعد الملايين من الدولارات لاقامة قواعد عسكرية مؤقتة، يتركها من ثم للعراقيين؟
تصريح سنو الاخير يبدو وكانه تطمين لايران، في جو التوتر البادي بين الدولتين، والكلام الكثير عن استعمال العراق كقاعدة لضرب بلاد فارس. لكن ثمة رسالة اخرى اكثر بعدا وعمقا هي تلك التي يوجهها المسؤول الاميركي الى روسيا بعد ان اصبح قلق بوتين من التهديد الاميركي معلنا، بل بعد ان تجاوز مرحلة الظن والكلام الى مرحلة المواجهة. هذه المواجهة التي جعلت الاميركيين يتذكرون ان الرئيس الروسي غير ديمقراطي.
واذا كان ثمة قائل بان هذا الكلام بدون سند لانه لا يعقل ان يتصور احد بان واشنطن ستهاجم موسكو، فان الصراع الحقيقي لا يدور على مهاجمة هذه الدولة او تلك وانما مستقبل الامبراطورية، الذي تهدده عودة روسيا الى الوقوف على قدميها، ووعي قيادتها بما يمكن ان يعنيه وقوف الجيش الاميركي على ابوابها من هذه الجهة وتلك. عبر الرقعة التي يحددها ميشال كولون ب “امبراطورية استعمارية لا تقتصر على العراق، وانما تشمل كامل سوريا الطبيعية وايران واراضي الجمهوريات السوفييتية السابقة. وتتكرس اسيويا عبر انبوب النفط الذي يمتد من باكو ( اذربيجان) الى سيحان ( تركيا) – مرورا بتبلسي (جورجيا).
صراع اذا اضفناه الى التهديد الصيني، وجدنا ان مصلحة الولايات المتحدة قد تكمن في المحيط العراقي الايراني في نقطتين: الاولى هي تجنب هزيمة امام المقاومة العراقية، بل وتجنب استمرار حرب استنزاف طويلة مع هذه المقاومة. والثانية هي تحييد ايران، ان لم يكن التوضصل الى حل وسط يحولها الى حليف.
نقطتان تلتقيان في النهاية، لان تحييد طهران او التوصل الى تحالف معها لا يمكن ان يتم الا بثمن مزدوج: ملفها النووي، وحصتها في العراق.
مما قد يجعل من القواعد الاميركية مكانا لتجميع قوات الاحتلال فيما اذا تقرر سحبها تدريجيا من مواقعها الحالية، اذا ما تم التوصل الى اتفاق ما يضمن المصلحتين الاميركية والايرانية. فتحقق الاهداف الستراتيجية ويتوقف الاميركيون عن كتابة مسرحيات عن معاناة جنودهم. بل وربما كتبوا عندها عن الحياة داخل قواعدهم وعن خيرات قانون النفط الذي سيكون ثمنا لكل تنازلاتهم. علما بانه لن يغير في الامر شيئا وصول الديمقراطيين الى الحكم، بل ان هذا التحول قد يفعّل هذا الاسلوب في الحل.
لكن ما قد يقلب هذه المعادلات بالكامل هو قدرة المقاومة العراقية على الصمود، وهي قدرة لا تتامن الا بوحدتها ووعيها للمخططات التي تستهدف بلادها، ولكم فيما حدث في فلسطين درسا يا اولي الالباب.