لكأن المحورين الاسايين للمؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة في بيروت تمثلا في موضوعين اثنين: الدفاع عن تقصير الحكومة في عملية الاغاثة واعادة الاعمار في رد على تحرك حزب الله الذي بادر الى التصرف فور وقف اطلاق النار. وتقديم كشف مدير شركة استثمار عن المشاريع والتلزيمات، ومراحلها. واذا به بذلك يتحدث بعقلية المقاول والمدير المالي الذي رافق رفيق الحريري في رحلته الطويلة في الاستثمارات والمقاولات، وبعقلية المحامي ، لا بعقلية رجل الدولة، خاصة دولة تخرج من حرب مدمرة هائلة كما لبنان الان، وتقف في مواجهة قرارات مصيرية تاريخية كما هو مطلوب منها الان.
ولعل الدلالة الكبيرة على هذا الخلط والقصور هو تشديد رئيس الوزراء على استعمال كلمة الدولة مكان كلمة الحكومة، في خلط للمصطلحات، يحمل اكثر من دلالة خطيرة. فحين يقول ان الدولة هي جزء من المواطنين وجزء من الناس، وعلى الناس ان تتضامن من حول الدولة، وانها مأكولة مذمومة، وليس هناك غير الدولة تقف معنا. ففي ذلك كله وضوح ان الرجل الذي يراس السلطة التنفيذية انما يعتبر الحكومة باجهزتها هي الدولة، وبقية المواطنين جمهور عليه ان يلتم حولها. في حين ان ابسط طالب في العلوم السياسية يعرف ان الدولة هي الهيكل السياسي للشعب بكل مواطنيه وبكل اجياله، ومن هنا تكتسب ديمومتها وعظمتها وتماهيها مع الوطن، في حين ان الحكومة هي جهاز منتخب ومعين متبدل يخضع للخلافيات بين مؤيد لسياسات تضعها وسلوكيات تسلكها وبين معارض. ولا يقتصر هذا الخلط على مجرد قضية علمية لفظية مصطلحية وانما هو يعكس عقلية محددة خطيرة من نظرة الحكومة الى نفسها والى شعبها، ومن الحقوق التي تمنحها لنفسها والمطالب التي تفرضها على المواطنين، ونظرتها الى الخدمات التي تقدمها لهم. فيما يشكل اساسا لحالة الفساد المستشرية في دولنا، ولحالة الانفصام القائمة بين الحكم والشعب.اما القول بانها مأكولة مذمومة فلا شك انه سيثير ضحك جميع اللبنانيين الذين يعرفون من اكل الدولة ( والدولة بمعناها العلمي الحقيقي هذه المرة ) ويعرفون تماما تاريخ الاتهامات المالية التي اودت برئيس الحكومة يوما الى المحكمة، علما بانهم يعرفون بانه لم يكن اكثر فسادا من أي مسؤول اخر، كما سيثير ضحكهم وشتائمهم في وقت واحد ذكر وزارة المهجرين واللجان الخاصة التي تنظم الان للاعمار، والتلزيمات التي حصلت بسرعة قادر. لانهم لم ينسوا بعد وزارة المهجرين التي رئسها وليد جنبلاط ايام الوجود السوري ورئاسة الحريري، ومصير اموالها. كما لم ينسوا بعد تلزيمات اعادة الاعمار بعد الحرب الاهلية، التي نقلت ديون البلاد من اربع مليارات الى اربعين مليار في حين نقلت ثروات المسؤولين بصواريخ ارض جو. كما لا يغيب عن بالهم السؤال الذي يسود الشارع اليوم: لماذا ضربت اسرائيل في كل مكان الا في فضاءات منشآت سولبدير؟
كما يسالون: منذ متى كان للحكومة هذا النشاط المبهج الذي تعجز عنه اكثر الدول في العالم تطورا بحيث استطاعت ان تقوم بتلزيم عشرات العقود وان تعد 176 مشروعا جاهزة للتلزيم. اما لمن وباية كوميسيونات، وكم سيوضع من قيمة التلزيم في تنفيذ العمل فهذه كلها اسئلة يعرف اللبنانيون ان مجرد طرحها هو من باب تحصيل الحاصل.
لكن الاخطر هو ان رئيس الوزراء الذي تحدث بلغة وزير اشغال عامة او رئيس شركة مقاولات، نسي تماما انه راس السلطة التنفيذية في الحكم وبالتالي انه مسؤول عن الجانب السياسي من الحرب وما بعد الحرب، عن الاسرى اللبنانيين، عن موضوع القوات الدولية ودورها، عن اعلام السلام الدائم التي يلوح بها الجميع من هنا وهناك، من مسؤولين عرب الى مسؤولين دوليين وعلى راسهم كوفي عنان، الذي تفرج على جنوبي لبنان من الطائرة في حين كان اول نشاط قام به في اسرائيل هو الاجتماع باهل الجنديين الاسيرين، وكان موتى لبنان واسراه مولود من رجل البطة كما يقول المثل الشعبي ولا ام ولا اب لهم. لكن لماذا نلوم كوفي عنان طالما ان الرجل يتصدر مسؤولية البلاد وقيادتها لا يذكر اسرى البلاد وشهداءها، فكيف يصبح لانساننا قيمة عند الاخرين طالما ان لا قيمة له عندنا؟
هذا اضافة ان الانتقال من الكلام عن تبادل الاسرى الى اولوية اطلاق سراح الاسرائيليين بدون شروط هي مسالة خطيرة تعيد الامور الى نقطة الصفر، وتتناقض حتى مع مضمون القرار الدولي.
ولعل الدلالة المريرة هي ان محطة الجزيرة قطعت مؤتمر السنيورة لتبث مؤتمر كوفي عنان مع وزيرة الخارجية الاسرائيلية، ومن ثم مع اولمرت. لم يتحدث الاثنان عن اعمار الشمال ولا التلزيمات، بل تحدثا كما رجال الدولة عن القضايا السياسية الاساسية بالنسبة لهما: الاسيرين، سلاح حزب الله، والقوات الدولية، والسلام الدائم. هذه الثيمات السياسية تناولها خطاب السنيورة في ستوكهولم، على عكس بيروت ولكن ليعد بلبنان ” الاعتدال ” الذي لن تقبل فيه التصرفات المنفردة ( وفي ذلك نقد واضح لحزب الله )، كما ليعد بسلام دائم لاسرائيل مرة والى الابد دون ان يذكر كلمة عن اسرى لبنان او عن دور المقاومة الدفاعي. ( كل ذلك بثمن نصف مليار دولار )
فهل يعقل ان يحول انتصار عسكري بطولي اسطوري كالذي حققه حزب الله الى مناقصة استثمارية، في حين تتحول هزيمة اسرائيلية منكرة وزعزعة داخلية رهيبة كالتي حصلت لاسرائيل الى هجوم معاكس لتحقيق مكاسب سياسية وديبلوماسية؟ اكلما حققت القوى الشعبية مكاسب بثمن دمها التفت عليها القوى الحاكمة بثمن كراسيها وارصدتها المصرفية؟