كانوا وراء الباب.

صحيفة الخليج، 19-01-2006

لكأنهم كانوا جميعا وراء الباب ينتظرون الدخول بفارغ الصبر، وما ان فتح حتى تدفقوا يتعثر احدهم بالاخر. عدد هائل من الشركات ودفق من المسؤولين الغربيين، لا يقتصر على الاميركيين الذين اعتدنا زياراتهم المفاجئة لحكام بغداد الذين وضعوهم بايديهم على الكرسي، بل ويتعدى الى الفرنسيين والروس والحبل على الجرار.

قبل سنوات اطلق رئيس تحرير لوموند ديبلوماتيك اينياسيو رامونيه على الشركات متعددة الجنسيات لقب سادة العالم الجدد. ومن عام 1991 ومجريات الامور في العراق ( كما في سائر العالم ) تؤكد ان الحكومات لم تعد الا ادوات في يد هؤلاء السادة. فمن يقول ان فرانسوا فيون وحكومته –مثلا- اقوى من توتال، او على الاقل ابقى؟

ومن يقول ان سياسة جورج بوش والمحافظين الجدد قد عملت لصالح اميركا بقدر ما عملت لصالح اكسون او توتال او هاليبرتون؟ صحيح ان ادارة بوش كانت مدفوعة بلوبي صهيوني قوي تحكم بالنيوليبراليين، وعلى راس اهدافه تسخير القوة العظمى – واستغلال مرحلة التفرد القصيرة براس قمة الهرم العالمي – للقضاء على القوة التي يمكن لها ان تهدد اسرائيل في المنطقة. وصحيح ان اول قرارات الاحتلال كانت حل الجيش واول اعماله تدمير البنية الثقافية والعلمية والاقتصادية، لكن ذلك كله كان بمثابة العمل الماجور: ينفذه بوش وتشيني ورامسفيلد لقاء اطلاق يد الشركات المتعددة الجنسيات التي يملكون حصصا فيها في ثروات البلاد. مما كان يقتضي بالضرورة القضاء على النظام الذي قرر التاميم قبل عقود، واقفل الباب امام هذه الشركات.

وهذا ما اشار اليه  وزير الدفاع الفرنسي المستقيل جان بيير شفينمان،  في كتابه الذي ترجم تحت عنوان: انا وحرب العراق، عام 1991  بقوله: كان صدام حسين غير مقتنع بان اميركا والغرب  ستشن فعلا الحرب عليه، وكنت اقول لاصدقائي العراقيين انكم لا تحسنون تقدير حقد الغرب عليكم بسبب تاميم النفط.

وبالامس نشرت جريدة  لوموند الفرنسية مقالا بعنوان: “الالدورادو العراقية، اخيرا امام المستثمرين. ” بدأته بجملة دالة: ” عقود والشركات البترولية تنتظر على ابواب العراق، وسنوات طويلة مضت وصبر الدول المستهلكة ينفد امام تاخر الدخول الى السوق العراقية “.

وها هم يتنفسون الصعداء  ويتدفقون: دون ان يقتصر الامر على  الاسماء الغربية فقط، فالى جانب اكسون، BP، توتال، شيفرون، اني، و شل، نجد ثلاث شركات صينية: CNPC- Cinopec – Cnooc، شركة هندية  ONGC، شركة غاز بروم، وشركة بترونا الماليزية. كما نجد عددا من الشركات الصغيرة التي تدب لالتقاط عقود الخدمات التي  لا تلقي  الشركات الكبرى اليها بالا.

ويتدفق معهم مسؤولو دولهم المكلفون بتسهيل الامور، فزيارة فرانسوا فييون لا تنفصل عن توقع مدير توتال بالا يكون استدراج العروض  الذي اعلن عنه بالتزامن مع انسحاب القوات الاميركية الى القواعد،  سوى المرحلة الاولى، بحيث يتم  استدراج عروض جديد هذا العام ليبلغ الانتاج عام 2015 ستة ملايين برميل، في مقابل  4، 2  برميل حاليا. مما يجعل العراق معها  المنتج الثالث للنفط  في العالم. علما بان الاحتياطي القابل للتطوير هو اكبر من ذلك كله.

وعندما نعلم ان هذه الزيادة المتوقعة تاتي متزامنة مع نقص عالمي  في الانتاج يعود اما الى  نفاذ الاحتياطات في بعض الدول او الى  نقص في الاستثمار في بعضها الاخر، كما هو الحال في اندونيسيا، المكسيك، النروج، بريطانيا. كما تاتي  في وقت اصبحت فيه الحقول الجديدة نادرة. وفي وقت يواجه فيه من يريدون زيادة الانتاج صعوبات كبرى في دول من اكبر الدول المنتجة للنفط، من مثل الصعوبة التي تشكلها الحرب الاهلية في  دلتا  النيجر، او تلك السياسية المتمثلة في  اعادة انتخاب نجاد في ايران، واستمرار شافيظ في فنزويلا  وكذلك سياسات روسيا  والسعودية، بحيث يرفض جميع هؤلاء، على اختلاف اتجاهاتهم السياسية، مبدا زيادة الانتاج.

ليجعل هذا من العراق  احد  الدول النادرة التي سيزيد انتاجها في السنوات القادمة. مما يسيل له لعاب الشركات الكبرى، والدول الغربية والشرقية على حد سواء.

واذ  يضاف الى هذا الدور النفطي دور اخر متعلق بالغاز، حيث تتوقع مجلة  ب بي ستاتيستيكال ريفيو  ان يكون العراق العاشر عالميا  في مجال انتاج الغاز، فان الاهمية المعلقة على ارض الرافدين في مجال الطاقة  تتعاظم، خاصة وان للغاز اهمية ستراتيجية كبرى وخاصة بالنسبة لاوروبا تحديدا: حيث يفترض ان يغذي غاز العراق انبوب نابوكو الذي يمر جنوب اوروبا ويخفف  بذلك من تبعية اوروبا لروسيا.

انه زمن القطاف بالنسبة لجميع القوى العالمية التي سكتت عن محاصرة العراق واحتلاله لسنوات. ولكنه زمن يطرح سؤالا اساسيا على الصعيد السياسي: هل ثمة من مجال بعد الان للحديث عن ديمقراطية ولو وهمية وشكلية في العراق؟ وهل يناسب هذه الدول والشركات المستثمرة حارس على ابار النفط والغاز لا يملك السلطة المطلقة؟ خصوصا وانه لا يمكن لعاقل ان يتخيل ان الشعب العراقي كله سيسكت عن نهب امواله، مما يعني اتجاه المقاومة نحو مقاومة هذا الاستغلال وتصعيدها. وعندها يحتاج الامر الى امرين: قمع اكثر وتمييع اكثر. قمع لا يقتصر على القوى الامنية التابعة للحكومة العراقية، ولا على الاميركيين الذين سيسهرون من قواعدهم على كل شيء وقد سمعنا المالكي يرحب – خلال استقباله لفيون – بالشركات الامنية الفرنسية، على سبيل المثال. وتمييع وسيلته نشر مزيد من الفساد والافساد في اجهزة الدولة وتسريب ذلك الى صفوف القوى الوطنية والمقاومة، مما يساعد عليه تدفق الاموال الهائلة التي ستنتج عن هذا الواقع الجديد.

كان العراق ديكتاتورية، ولكنها حكم ديكتاتور مستنير، وقيادة قومية ووطنية، تعمل بجد على اطلاق نهضة حقيقية، في العلوم والفنون والثقافة، وبناء القوة العسكرية والاقتصادية والسيادة. فهل سيعود الى ديكتاتورية جديدة لا تحمل الا نقائض كل ذلك، وتكتفي بدور الحارس الحديدي على ابار النفط والغاز؟

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون