العراق والخليج والمرحلة الجديدة

صحيفة الخليج، 19-01-2006

في كل خطاب جزء خفي هو  المسكوت عنه او ما يعبر عنه علم الخطاب بعملية الاقصاء. فمن الخطاب الاعلامي والسياسي الذي تناول المناورات العسكرية في الخليج العربي، الى الخطاب الدي القاه الرئيس الاميركي في مؤتمره الصحافي الاخير، ثمة مسكوت عنه  بالغ الاهمية.  الكلام عن المناورات راح دائما باتجاه ايران  وسكت تماما عن العراق والخليج العربي وكلام الرئيس الاميركي تحدث عن كل شيء واقصى  مصطلحين: العراقيون والمقاومة ليستبدلهما بالشيعة والسنة والعدو.

غير ان بوش قال جملة واحدة فضحت المسكوت عنه في موضوع المناورات:  اذا ما فشلنا في العراق انتصر المتطرفون وسيطروا على النفط العراقي ومن ثم غيروا الحكومات النفطية الاخرى وسيطروا على كل نفط المنطقة وتحكموا بالولايات المتحدة الاميركية وبالغرب. هكدا خلع الرجل القناع الدي لم يعد يقنع احدا، فلا حديث  عن الحرية والديمقراطية ولا لانه يريد ان يجعل من العراق  نموذجا ديمقراطيا للمنطقة كلها، ولا ليقيم الشرق الاوسط الكبير او الجديد او غيره من الاوصاف، بل ليحمي المصالح الاميركية في النفط العربي وحسب. لذا كانت اول عمليات المناورات انزال عسكري في اكبر مجمع نفطي في الخليج والعالم، وهي اشبه بالانزال الاميركي في حفر الباطن في التسعينات.  لكن هذه المبادرة بحد ذاتها تكشف عن مسكوت عنه اخر وهو التحسب لهزيمة محتملة في العراق. وهذا ايضا ما يمكن تبينه بسهولة عبر

بند اساسي في قواعد تحليل الخطاب السياسي ( والخطاب بشكل عام ) ان خطاب المنتصر يكون قصيرا  مباشرا موجزا تكفيه بلاغة بضع كلمات للتعبير عن او لاعلان انتصاره، وان خطاب المهزوم يكون طويلا غير مباشر يحور ويدور ويعبر من موضوع الى اخر حول الموضوع الاساسي. وهذه قاعدة يزخر التاريخ بالامثلة عليها. وذدا ما اعتمدناها في مقارنة خطابه هذا بذاك الذي القاه  عند انتهاء العمليات العسكرية ( او ما ظنه هو انتهاء العمليات العسكرية ) مع احتلال العراق، لقادت المقارنة الى نتائج خطيرة واضحة.  يومها كان بوش يعلن انتصار جيشه باسما سعيدا، منفرج الوجه. واليوم هو يقدم مبررات فشل احتلاله متجهما مقطب الجبين وقد انقبضت اساريره فزادت تجاعيدها وتعمقت. وعندما وجه اليه صحافي السؤال الاول اخذ معه الجواب وقتا معادلا تقريبا لوقت الكلمة الاساسية، وراح يلف ويدور ويتحدث عن كل شيء لم يسال عنه، عن الارهاب وعن فلسطين، وعن ايران وعن وعن في محاولة لايجاد جواب غير موجود، محاولة لم يكن واضحا فيها الا الارتباك. طبعا هو لم يتخل عن الفاظه المعهودة وعن ثنائياته المانوية: الخير والشر، نحن والاعداء، العالم الحر والارهاب الخ… ولكنه تخلى كليا عن غطرسته، واصراره على ان لا شيء سيتغير في  الخطة الاميركية الموضوعة للعراق، واعترف مرغما على انه مضطر للتغيير،. و بصراحة مطلقة قال الحقيقة الكبرى التي يعرفها الجميع  وهي ان نتيجة الصراع في العراق ستحدد مستقبل بقاء الامبراطورية الاميركية، لكانه يكرر ما قاله كولن باول عام 1991: “لا شك في اننا نحتاج الى منطقة الخليج والشرق الاوسط في صراعنا الستراتيجي المقبل مع اوروبا الموحدة والصين “. لكن باول اضاف يومها انه يفضل تحقيق دلك بدون اللجوء الى القوة العسكرية لان من شانها ان تؤجج الكراهية ضد الولايات المتحدة وتنمي الاصولية الاسلامية وتخلق حالة من الفوضى في منطقة يسيطر عليها ايات الله ” وهذا ما لم يهتم له لا بوش الاب ولا الابن.الدي اصر على التصعيد العسكري   مكررا اكثر من مرة عبارة: سننتصر. وهذا التكرار بحد ذاته مسالة خطيرة ونقطة كبرى في صالح المقاومة العراقية، لان بوش كان قد اعلن منذ اربع سنوات انه انتصر وانتهى الامر.

غير ان هذا التحليل السريع للخطاب، وهذا العبور السريع الى الاسنتاتاجات، لا يجوز ان يفهم على انه خلفية لبدء الجنود الاميركيين بحزم امتعتهم، بل انه مقدمة لمرحلة جديدة ستكون اكثر شراسة مكشوفة بين الاحتلال والمقاومة، حيث ان هذا التطور قاد الاثنين الى نقطة لا تسمح  ابدا بالتراجع خطوة الى الوراء، فلا الامبراطورية يمكن ان تسمح بنمو الفرص المؤدية الى دمارها، ولا المقاومة وقد احست بمدى ما حققته يمكن ان تخفف معركتها. وبمعادلة بسيطة نقول انها وقد تحركت وعملت في وقت لم يكن احد يعنرف بها او يتوقع انبثاقها او يؤمن بقدراتها، فانها لا يمكن ان تتراجع الان وقد لاح وراء كل خطاب الرئيس الاميركي نفسه واقع الاعتراف بنجاحها.

من هنا كان بدات سمات المرحلة الجديدة ترتسم: الرئيس اعقب خطبه بارسال تعزيزات اضافية الى العراق. الاميركيون حاولوا رمي  الاتهامات بالتقصير على حكومة المالكي  ليس فقط في محاولة للتنصل من المسؤولية كما يفهم البعض، وانما كمقدمة لتغيير هذه الحكومة واستبدالها باخرى ربما تضمنت شخصيات بدا وجودها مفاجاة كبرى، اذا ما نجحت بعض الاتصالات السرية مع اطراف ممن يمكن ان ينتحلوا صفة المقاومة او ممن يمكن ان تنجح الدول العربية  الحليفة للولايات المتحدة في التفاوض معهم (  وقد تحدث بوش عن هذا الدور لهذه الدول  صراحة وبالاسم )   رغم ما بدا من مصالحة بين الطرفين. واخيرا لا اخرا تاتي الخطوة الاهم وهي ما اعلنته خطة بيكر من تقسيم العراق الى ثلاث فدراليات، بحيث تبقى السلطة المركزية في يد الاقليم الاضعف والافقر، وتبقى بيده حقيبة العلاقات الخارجية وحماية الحدود، مما يعني انه لن يستطيع تامين الحدود  الا بمساعدة اميركية وبالتالي لا يمارس السياسة الخارجية الا وفق المطالب الاميركية. في حين يبقى الاقليمان الاخيران الغنيان بالنفط مرتبطان باميركا واسرائيل عبر العقود النفطية وما يتبعها من سيطرة كاملة كما هي الحال في الخليج.  ولذا كان بوش يستعمل كلمة الشيعة والسنة بدلا من العراقيين  متعمدا التكرار فيما ينسجم مع خطة بيكر. اذ ان  خاصية اخرى في صياغة الخطاب تقوم على ان تكرار المصطلح يركز واقعيا وسيكولوجيا  ما يحمله من معنى  ( فيما عرف باسلوب المسمار )

 

في مواجهة هذا المنحى  الاميركي من المعركة، ردت المقاومة العراقية باعلان رسمي عن تشكيل قيادة موحدة للمقاومة الوطنية والقومية والاسلامية، حيث بدات بتمرير الخبر عبر جريدة القدس العربي، ثم اعقبته تصريحات عن اعلان رسمي قريب  عن التفاصيل من مكتب سياسي وتوزيع مسؤوليات.  واذا كان اعلان اسم الناطق الرسمي عبر صوت الرافدين قد جاء لقطع الطريق على المدعين والمتدخلين، فان حديث  الادارة الاميركية بعدئذ عن دور لايران ولسوريا، وتكرار الحديث  عن الدور السوري على لسان نائب الرئيس العراقي و المصالحة بين المالكي والاميركيين ومحاولة ترطيب الجو مع جماعة الصدر وانفراط مؤتمر المصالحة الدي كان من المفترض ان يعقد في عمان، بالقول صراحة انه لا فائدة منه في ظل الاحتلال (  وقد عقد مثله سابقا )  لم تكن كلها الا ردات فعل على اعلان المقاومة. كل هذا يعني فعلا ان مرحلة جديدة قد بدات وهي مرحلة الحسم، الذي لن يكون سهلا ولا قريبا لكنه حتمي.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون