كلما علا الضجيج احس المرء بحاجته للهدوء، وكلما تسارعت الاحداث ازدادت الحاجة للتامل.
لهيب النار الدي اشعلته قضية الرسوم الكاريكاتورية للرسول الكريم ابعد من ان تكون مجرد فعل مرتجل وردة فعل مثيلة. وادا كان البعدان الظاهران لها هما ببساطة البعد الاوروبي من جهة والبعد العربي الاسلامي من جهة ثانية، فان الخريطة ليست ابدا على هدا القدر من البساطة، اد ان بعدا ثالثا يضاف الى البعدين المدكورين، هو البعد الاميركي- الصهيوني. كما ان خريطة اخرى بالغة التعقيد ترتسم داخل كل من هده الخرائط الثلاث، وترتبط بعوامل منها السياسي الاقتصادي ومنها السيكولوجي ومنا الحضاري الثقافي.
وادا ما بدانا بالبعد الاوروبي الدي بدات لديه المشكلة فان بديهي القول ان هده الاوروبا ليست واحدة فيما يخص قضايا العالم العربي والاسلامي. وحتى فيما يخص رؤيتها هي للقضايا الفكرية والدينية والثقافية. داك ان القارة العجوز التي بدات تتعود مند فولتير وديديرو وسواهم على انتقاد الدين والرموز الدينية، كما تعودت ايضا مع الحركة البروتستانتية كسر هيبة هده الرموز، قد وصلت في المرحلة الحديثة الى حال من الاسفاف في التعرض للرموز المسيحية بدءا من السيد المسيح، وانتقالا الى السيدة العدراء و المجدلية وغيرهم، اسفاف لا يتسم بالبراءة التي تعتصم بحرية التعبير.وداك بدليلين: الاول انه ما يزال في الساحات الفكرية والشعبية من يتمسك بصدق بالوفاء لرموز الثقافة والايمان المسيحيين. والثاني ان هده الحرية المزعومة تمحي تماما ادا ما وصل الامر الى انتقاد أي رمز يهودي، حتى ولو كان رمزا سياسيا او تاريخيا. ففي فرنسا لم تنته بعد قضية الممثل الكوميدي ديودونيه الدي قدم على مسرحه عرضا كوميديا شمل ثلاث رجال دين: كاهن وشيخ وحاخام. فقامت القيامة ولم تقعد على التجروء على الثالث، واتهم الممثل باللاسامية، وغرق في مواجهة لا يدري احد مالها. وفي النمسا تدور الان محاكمة المؤرخ البريطاني ديفيد ايرفنغ، كما دارت محاكمات عشرات من المفكرين والمؤرخين الدين حاولوا بعلمية جدية قراءة تاريخ الحرب العالمية الثانية. وادا ما انتقلنا من الوقائع الى القوانين وجدنا قانون فابيوس غايسو في فرنسا يحظر تحت طائلة العقوبات البحث العلمي والتدقيق الاعلامي ادا ما مس الامر المحرقة اليهودية. ومثله عشرات القوانين في مختلف الدول الاوروبية. مما يؤكد لنا ان القضية قضية موازين قوى ولوبيهات ضاغطة تضعف امامها الحريات.
اما فيما يخص البند الاول وهو الموقف من قضايانا، فان اوروبا تنقسم بشكل اساسي بين خطين: خط الامركة والصهينة ، الدي ينادي بالحاق السياسة الاوروبية بديل الامبراطورية الاميركية، على طريقة بريطانيا طوني بلير، وفرنسا ميتران، وبركب المشروع الصهيوني على طريقة الخط التقليدي الممتد من بلفور الى ساركوزي وبرلسكوني . ودلك بحجتين: الاولى تدعي الاشتراك في منظومة القيم، والثانية تطرح مسالة اقتسام الغنائم، خاصة في ظل استحالة الفوز بها الا بموافقة الاميركيين. اما الخط الثاني فهو خط الاستقلالية الاوروبية، الدي قادته الديغولية الجديدة مع جاك شيراك والالمانية الجديدة مع شرودر والتحقت به تيارات كثيرة داخل جميع المجتمعات الاوروبية، ودلك ما يستند بدوره الى حجتين ايضا: الاولى ان الاشتراك في منظومة القيم مع الولايات المتحدة ليس اعمق من الاشتراك في القيم مع الحضارات الالفية القائمة حول المتوسط، ولهدا الطرح الفكري دعاته المناضلين العنيدين مند ديغول اليميني الى شفينمان اليساري الى زاباتيرو الى برودي الى سواهم… والحجة الثانية هي ان تحقيق المصالح الاوروبية لا يتم بنظرة قصيرة المدى تتعلق بديل التنورة الاميركية وانما بتحقيق استقلالية القارة، والعمل على وحدتها بما يؤمن لها على المدى البعيد ان تكون ثقلا موازيا للولايات المتحدة ” حليفا ولكن ليس تابعا ” كما صرخت ميشال اليوت ماري في اخر اجتماع للاطلسي. ولدا فان هدا الخط الاخير يلتزم موقف التوازن فيما يخص القضايا العربية، وداك ما لمسناه قويا في فلسطين وفي العراق مند سنوات ولكنه اخد يضعف ويتراجع مند سنتين لاسباب سنتناولها.
يضاف الى هدين الخطين، خط ثالث، شعبي يندرج تلقائيا في صف الخط الثاني بل ويتجاوزه باتجاهنا، الا وهو خط التيارات والقوى الشعبية المناهضة لحكوماتها المتامركة المتغولة راسماليا ولارباب السوق الدين باتوا سادة العالم الجدد، كما في ايطاليا واسبانيا والمانيا ووحتى بريطانيا نفسها. مما يجعل هده التيارات ترى فينا حليفا طبيعيا لها، بل وساحة صراع سيحسم فيها امر المواجهة العالمية.
لدا فاننا نلمس يوميا تضامنا غير عادي من قبل هده التيارات مع المقاومةالعراقية، وارتفاعا كبيرا في منسوب حضور القضية الفلسطينية، بحجم وحرارة علينا الاعتراف باننا لم نعد نجدهما في العالم العربي. ويكفي دليلا حملات التضامن مع المقاومة العراقية التي لا تهدا يوما واحدا من بلد اوروبي الى اخر.
وهنا يبرز السؤال: هل كان من الممكن الا تتحرك قوى المحافظين الجدد والصهاينة للالتفاف على هدا الواقع المتنامي، ولكسر موقف الخط المتوازن الاستقلالي في السباق السياسي؟
سؤال لا تنفع معه الاجابة المباشرة، اد لابد من تعديها الى الستراتيجية المقابلة. وهي ستراتيجية دات خطين انتهيا الى التماهي الكامل: الخط الصهيوني وخط المحافظين الجدد الاميركي. وهو خط تلتحق به بريطانيا والتيارات المؤيدة له في جميع الدول الاوروبية.
هنا يبدا التحليل من مفصل انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين، من تلك اللحظة التي اعلن فيها جورج بوش الاب من باريس انه لم يعد هناك وجود لعالم متعدد الاقطاب: لحظة اعلان الامبراطورية.ورسو النظام العالمي الجديد، الدي لم يكن من قبيل المصادفة ان يجد ترجمته الابرز بعد اقل من عام في فرض النظام الاقليمي الجديد في منطقة النفط والجيوبوليتيك والصراع العربي الاسرائيلي. كان استقرار الامبراطورية وبقاؤها مرهونان مند اللحظة الاولى بالسيطرة على هده المنطقة. وادا كانت الانتلجنسيا الاميركية قد جندت قواها الاستخباراتية والبحثية مع اندلاع الحرب الباردة بنهاية الحرب العالمية الثانية لدراسة كيفية الهيمنة على هده المنطقة فقد كان من البديهي ان هده السيطرة هي ضمان الهيمنة مع انتهاء الحرب الباردة. ففي العام 1958 اصدر المنظر السياسي الاعلامي ليرنركتابه عن تحديث الشرق الاوسط وفق النمودج الاميركي كمحصلو لتلك الايحاث، وفي العام 1991 كتب كولن باول يقول: لا شك اننا نحتاج للهيمنة على المنطقة في صراعنا القادم مع اوروبا النامية و الصين ، لكنه فضل الا تتم هده الهيمنة بالاساليب العسكرية، وفي العام 2003 اصدر هنتنغتون كتابه: ” من نحن، تحديات الهوية الاميركية ” ليحدد فيه الهوية بثلاثة عناصر: العرق الابيض، الديانة البروتستانتية،والثقافة الانكلوساكسونية، معتبرا ان هده الهوية لا تستطيع ان تعرف نفسها الا بالضد، لا تستطيع ان تصمد الا بعدو موازن، وبما ان هدا العدو الدي تمثل في الكتلة الشيوعية قد سقط، فان كل المحاولات لخلق عدو بديل ( من عصابات المادلين الى نيكاراغوا الى… ) قد فشلت لتفاوت الحجم، الى ان جاء العدو الاسلامي على طبق من دهب ليشكل الضد الموازن، الضامن للبقاء. من هنا تصبح ضرورة تاجيج عداء الاسلام والعداء للاسلام في مقدمة الستراتيجية الاميركية. والمفارقة ان هنتنغتون ومن ورائه عصبة المحافظين الجدد لا يعتبرون العالم الاسلامي خطرا حقيقيا، بل يرون الخطر الحقيقي في اميركا الشمالية، اللاتينية، الخلاسية، الكاثوليكية. ويرون الهيمنة على منابع النفط وسيلة مواجهة هدا الخطر، كما انها وسيلة الامساك بعنق اوروبا واليابان.
من هنا يكون مطلب تصعيد العداء للاسلام وعداء الاسلام مطلبا ستراتيجيا لاميركا وحلفائها، في حين يرى فيه الاوروبيون الاستقلاليون خطرا كبيرا، اولا بسبب طبيعة الفضاء الجغرافي، وثانيا بسبب التكوين الديموغرافي الجديد للمجتمعات الاوروبية. وهدا ما عبر عنه شفينمان المستقيل عام 1991 ببلاغة: ” ان الفوضى التي تنشا على الضفة الشرقية للمتوسط لن تتاخر في عبوره الى الغربية، فيما لا يتحمله التوازن الهش لمجتمعاتنا.” فهل ضرب اوروبا في نقطة الهشاشة هده، ونقطة القوة الجعرافية معا الا المدخل الامثل لتحييد القارة العجوز، او لتحويلها الى الصف الاميركي الصهيوني، عبر احراج الخط الاستقلالي في سياسته الخارجية المعتدل المتوازن ان لم يكن المؤيد ازاء القضايا العربية؟ وعبر تدعيم الخط المعادي للعرب والمسلمين، وتهيئة الظروف المؤاتية له كي يحصد صناديق الاقتراع في كل الجولات؟ وادا كان مصطلح العرب يغيب من هدا الطرح، ليقتصر الامر على الاسلام، فلان المطلوب محو مصطلح العرب من الداكرة الانسانية، ومن العربية اولا، وداك لكل الاسباب المدكورة اولا، ولان توسيع الدائرة يشمل دولا اسلامية مستهدفة هي الاخرى، ويضع مفهوم صراع الحضارات في سياقه الهنتنغتوني، معطيا بدلك المبرر المنطقي للقول بمشروع صهيوني يقوم على الدين اليهودي.
هنا نصل الى اسرائيل وصهاينتها، ونبدا من المفصل نفسه، نهاية الحرب الباردة، اد كان الصهاينة يدركون ان عليهم الهيمنة على الامبراطورية التي ستهيمن على العالم. كما ان الهيمنتين مشروطتين بالقضاء على سبل المقاومة، وبالتالي على كل تحرك لدعم وتاييد هده المقاومة، على اية ساحة كان. خنق المقاومة وخنق تاييدها يتطلب بدوره استصدار قوانين وتشريعات تجعله سلوكا مقبولا في دولة القانون وباسم القانون ( وقد اختبر اليهود ذلك في موضوع المحرقة واللاسامية وتبينوا نجاعته ). لكن استصدار القوانين يتطلب اجواء شعبية وحكومية مؤاتية، ادن لا بد من خلقها وبجميع الوسائل، التي يتقدمها الضغط والاستفزاز.
وهل افضل للضغط والاستفزاز من بعبع الارهاب، وشبح العدو الاسلامي الرابض على الابواب وتحت المعاطف؟ وهل افضل لتحريك هدا الاوقيانوس الاسلامي المخيف من المس بمحرماته، ومن ثم باقدس مقدساته؟ وهل يجهل هؤلاء المخططون بان هدا الاوقيانوس ما زال يحتفظ بحساسية دينية لم تصل بعد الى فولتير وديدرو، لا ولا الى الانفلات البروتستانتي الجديد؟
في عام 1995 اصدر بنيامين نتياهو كتابه الشهير ” امن وسلام / استئصال الارهاب ” حلل فيه ما اسماه بالارهاب، كما حلل اساليب مواجهته، سواء من حيث كشفه للجهود التي قامت بها اسرائيل والصهيونية في هدا الاتجاه مند الثمانينات، او من حيث تقديمه للخطة الواجب اتباعها في المستقبل.وهنا يتوقف المراقب عند ملاحظات:
اولها اعتبار استصدار قوانين محددة للحريات ضرورة حتمية لهده المواجهة، وهنا يروي كيف كرست السفارة الاسرائيلية في واشنطن جهودها مند منتصف الثمانينات لاقناع الراي العام الاميركي بهدا التحديد: ” لم نترك فرصة مهما كانت كبيرة او صغيرة و محدودة الا وساهمنا فيها لاثارة العداء والخوف.” يقول بوضوح. ويروي كيف اسست مؤسسة جوناثان على اسم اخيه الدي قتل في عملية عنتبي، لتضم شخصيات مهمة من كل العالم ( جورج شولتز – ليونيل جوسبان – سيمون فيل الخ….) وكيف ان معظم المشاركين كانوا يعارضون في الاجتماع الاول عام 1988 فكرة تحديد الحريات، ثم اصبح معظمهم مقتنع بها عند عقد الاجتماع الثاني عام.
الملاحظة الثانية هي تركيز الكتاب على ان عداء العرب والمسلمين للغرب ليس بسبب تاييد هدا الاخير لاسرائيل، بل ان عداء هؤلاء لاسرائيل هو بسبب كون هده الاخيرة تمثل القيم الغربية.
الملاحظة الثالثة هي القول بان الارهاب الدي يشكل تهيديدا حقيقيا هو\داك الدي تدعمه الدول ولدلك لا بد من القضاء على القوة العراقية، ومن ثم الايرانية ( مرورا بسوريا والسعودية وليبيا ومصر )
الملاحظة الرابعة هي تقسيم الارهاب الاسلامي الى ارهاب سني وارهاب شيعي ( وهدا ما كان جديدا عام 1995)
بعد هدا المانيفستو شكل نتنياهو لجنة سميت بلجنة العراق رئسها ريتشارد بيرل، وقدمت في 8 يوليو عام 96 ما سمي بوثيقة بيرل، والتي نصت على خطة لاسقاط العراق، ومن ثم سوريا فاسعودية فايران ( دون تحديد الطريقة ) ودلك تحت عنوان: ” بزوغ ستراتيجية جديدة لتامين المملكة ” مولها معهد الدراسات الستراتيجية والدراسات العليا الدي ينفق عليه الملياردير اليهودي ريتشارد ساييفي. بعدها بيومين القى نتنياهو خطبة امام الكونغرس شدد فيها على ماورد في الخطة وعلى الملاحظات التي سقناها اعلاه، ومنها قضية قوانين تحديد الحريات، وعداء الاسلام للغرب . خطبة تكررت بنفس المفاهيم، امام الكونغري ايضا غداة احداث 11 سبتمبر. التي سهلت اصدار حزمة القوانين المعروفة في اميركا.
في هده الاجواء تهيا العدوان على العراق، لتليه المقاومة التي لم يكن احد يتوقعها، مما راح يقدم كل يوم تاكيدات على صحة منطق معارضي الحرب في اوروبا. تاكيدات كانت تترافق بارتفاع التاييد للفلسطينيين، وبتجرؤ اوروبي لم يسبق له مثيل ضد الاميركيين واليهود واسرائيل. _ وندكر على سبيل المثال لا الحصر الاستطلاع الدي دل على ان غالبية الاوروربيين تعتبر اسرائيل خطرا على السلام العالمي – المظاهرة المنقطعة النظير التي خرجت احتجاجا على زيارة جورج بوش لفرنسا في العالم الماضي – اقدام مقاطعة سور تروتديلاغ النروجية على مقاطعة اسرائيل – اعلان الوزيرة كريستين مالفرشن عن حملة تضامن مع الشعب الفلسطيني وحقوقه – حملات الدعم للمقاومة العراقية وبدء اختراق هده المقاومة لوسائل الاعلام- الاستطلاع الدي دل على ان غالبية الدانمركيين تؤيد سحب قوات بلادها من العراق، الخ…..).
هنا اصبحت الحاجة ملحة الى تفعيل امرين والتعجيل بهما:
– تفعيل منطق الكراهية بين الغرب والعرب والمسلمين، انطلاقا من اوروبا لا من اميركا
– اضعاف التيارات الاستقلالية والقوى المعتدلة او المؤيدة للعرب، مما يعني على مستوى القيادات حسم المعارك الانتخابية ضد هؤلاء، ولصالح القوى الاخرى، وعلى الصعيد الشعبي استصدار قوانين تمنعهم من التحرك.
وقد جاءت تطورات الاوضاع على الساحة العراقية اولا، وعلى الساحات اللبنانية والفلسطينية ثانيا، وما هو مطلوب من الساحة السورية ثالثا لتعزز الحاح هده الحاجة.
الحاح عززه ايضا تراجع الدولار امام اليورو، نتيجة الوضع في العراق.
اذن لا بد من حدث قادر على اثارة اعتى ما في النار من لهب، وليبدا الامر من الدانمرك، ومن صحيفة على ارتباط وثيق باحد اشرس منظري المحافظين الجدد اليهودي الصهيوني دانيال بايبس ( لا بد من السؤال لمادا يترك هدا الرجل المنابر الاميركية ليكتب في صحيفة بلد صغير كالدانمرك؟ دون ان ننسى دور اللوبي اليهودي هناك، وكون هده الدولة مشاركة في التغطية على احتلال العراق ). وهل افضل من ” استغلال وتوظيف احساس الاذلال لدى المسلمين ” عبر المساس باقدس كراماتهم؟ كما قال تجمع مسلمي فرنسا، الدي اضاف في بيانه: ” من السذاجة القول ان ردة الفعل لم تكن محسوبة ”
ملتقيا بدلك مع المفكر الاسلامي الابرز في اوروبا استاد الفلسفة وعلم الاجتماع طارق رمضان، حفيد حسن البنا، عندما علق بتورية هي سمة الفلاسفة: ” لا بد من التمسك بالتعاليم مع التحلي بحكمة كافية تمنع الشخص من ان ياتي بمجرد ردة فعل على الاستفزاز واضاف محدرا من الاخطار التي تشكلها هده الاستجابة للاستفزاز، على المسلمين في الغرب وعلى العالم العربي والاسلامي وقضاياه المصيرية”. مقولتان حاولت ان استطلع بعدهما الشعبي وانا اسال سائق التاكسي الشاب، الجزائري الدي اوصلني الى مطار شارل ديغول ليجيبني ببساطة بليغة: ايا تكن الاراء المختلفة، فما لا شك فيه ان الذين خططوا لنشر هده الصور كانوا يعرفون ردات الفعل التي ستسببها” ا . هدا الشاب الدي لا اعرف مدى ثقافته ووعيه السياسي والفكري، اضيفه الى استطلاع الجزيرة نت الدي شمل حوالي مئة مشارك، لاقيم تحليل خطاب يقودني الى مجموعة حقائق ساطعة: الدين اجروا الاستطلاع حددوا الاسئلة وطلبوا من المشاركين الالتزام بها، وحصروها بثلاثة: هل هدا التصرف موجه ضد الاسلام؟ ما علاقته بحرية التعبير؟ وكيف يجب ان يكون الرد؟ هدا التحديد يعني شيئا هاما، ادا ما تبنينا مقولة ان المسكوت عنه في الخطاب هو اهم من المنطوق به، يعني ان الاستطلاع اراد ان يمنع المجيبين من التطرق الى الجانب السياسي الاهم القائم وراء اثارة القضية من اساسها. غير ان الردود عرفت بوعي او بغير وعي ان تلتف على هدا التحديد، وان تثير القضية السياسية بعمق ذي دلالة: عملية حسابية بسيطة تدل على ان الردود استعملت ستين مرة مرادفات من مثل: الدل، الهوان، الادلال، الامتهان، ضعف، تخادل، هرولة وراء الغرب، هان علينا كل شيء واستضعفونا، اليس عندنا كرامة؟ ومع كل هدا كلمة ” كفى “. كما ان هده الردود قد اوردت اكثر من خمسين مرة عبارات موجهة للحكومات العربية: “حكومات لم تنصر شعوبها”، “حكومات تربض فوق صدورنا”،” فاسدة وعميلة ” ” تتحمل مسؤولية الاحتلال” في مختلف الساحات العربية، “مهرولة وراء الغرب” ،” بدون كرامة”، “انعدام الثقة بين الشعوب والحكومات”. “كل ما يحصل لنا بسبب حكوماتنا”.
الملاحظة الرابعة في خطاب الردود هي التركيز اكثر ثلاثين مرة على اكدوبة الحريات في الغرب والاستشهاد بمثال موضوعة الهولوكوست، المحرقة، الحرب العالمية الثانية، روجيه غارودي، مدح هتلر، محمد صبحي، قضية المنار، منتدى دافوس واضطراره للاعتذار عن مقال ضد اسرائيل الخ…
اما الملاحظة الخامسة، فهي الحديث الدي تكرر احدى عشر مرة عن: ” البعد الاخر للصورة” وهو “اثارة التطرف والعداء الديني والفتنة والخلاف، لصالح المخطط الاميركي الصهيوني والطرف المعادي لنا في الغرب”، ” فيلم من انتاج اميركي يهودي مشترك لتوجيه كراهية المسلمين عن اميركا نحو اوروبا “، لاهداف من مثل: “جس نبض الشارع تمهيدا لهدم الاقصى”، او “لتنفيد المرحلة الجديدة من هذا المخطط وهي المرحلة التي تستهدف سوريا والسعودية والمقاومة اللبنانية ومن ثم مصر”.
الى هنا وانا لم اضف أي تعبير من عندي على هذه القراءة الالسنية الاحصائية. لكن تحليلها الاولي يقود الى نتائج مباشرة واضحة تتمثل في كون هده الهّبة – ايا تكن الماخد على اخراجها – هي عملية انتقام للكرامة المهدورة، عربيا واسلاميا، وليس المقصود بالذل والهوان اللذين يتحدث عنهما الشباب ما لحق بالاسلام كدين عبادات بل ما لحق بالمسلمين كتعد على يد الحكومات الغربية والحكومات العربية . كان الكبت هو السيد، وكان الانتقام للفقر والقهر والاحتلال والعدوان هو المحرك. لكن غياب الوعي الكافي في الشارع وغياب المنظمات الشعبية ومنظمات المجتمع المدني التي تعرف كيف تقنّن هده الطاقة المشحونة المكبوتة، في اتجاه المقاومة والاصلاح. وكيف تجعل من كل العملية مدخلا لاستغلال ذنب غربي كوسيلة ابتزاز سياسي وديبلوماسي يصب في صالحنا وصالح القوى التي تساندنا. كل ذلك جعل اعداءنا ينجحون فيما خططوا له وجعل المستفيدين من الحالة هم على التوالي: 1 الولايات المتحدة، الامبراطورية التي حققت مطلب سحب العصب الدي تقوم عليه قوة الاتحاد الاوروبي، أي العصب الاقتصادي، عبر عملية المقاطعة، واعادت ميزان القوة لصالح الدولار في وجه اليورو، مبعدة شبح نمو قوة تهدد الاحادية الامبراطورية
.2 الولايات المتحدة وبريطانيا اللتان غسلتا وجههما، واصبحتا تحاضران في عفاف الاعتدال واحترام الاسلام ( كان كرامة الاسلام شيء اخر غير كرامة المسلمين ) حتى ان قضية التعذيب الجديدة في العراق وغوانتانامو ضاعتا وسط الزفة، وضاعت معهما الاصوات التي تتحدث عن تصفية العلماء العراقيين، وعن سائر الجرائم الرهيبة في العراق . 3 اسرائيل التي صعدت الموج بعنف في وجه حماس القادمة الى السلطة ورفعت منسوب الضغط عليها للقبول بالتنازلات المطلوبة.
4 القوى المؤيدة لاسرائيل واميركا في الغرب التي تمكنت من ان تقول للشارع: انظروا هدا هو الخطر القابع على ابوابكم وليس اسرائيل. وهذا الاحتلال على حق، في العراق وفلسطين لان بديله سيكون الارهاب، ولتخرس جميع الاصوات التي تقول العكس، ولتمر جميع القوانين التي تحد من الحريات، فاما هي واما العدو المكشر عن انيابه.( وها هي بريطانيا تشرع قانون معاقبة من يمجد الارهاب!!…. الارهاب الذي لن يكون الا المقاومة في بلد يحتل العراق. وها هي فرنسا تشرع مراقبة القادمين من ” دول فيها قواعد ارهابية” وها هي حزم القوانين التي دار حولها الجدل الحامي في اجتماع المجموعة الاوروبية خلال الصيف بين بريطانيا وحلفائها وفي مقدمتهم الدانمرك،من جهة وبين لجان الحريات في البرلمان الاوروبي من جهة اخرى،تمر الان دون ان يجرؤ احد الاعتراض عليها، ويدفع العرب والمسلمون المتواجدون في اوروبا ثمنها بالدرجة الاولى ومعهم كل من يحاول الانتصار لقضاياهم )
اما على ارض الشارع فها هو وزير الداخلية ساركوزي اليهودي يتقدم نحو معركة الرئاسة مدعوما ببركة الايباك ومؤتمر هرتزليا.. وها هي الدانمرك المشاركة الاوروبية الرئيسية في احتلال العراق تتصلب في موقفها، ووراءها ايطاليا التي كان رومانو برودي يعد فيها بسحب جيشه من البصرة في حال فوزه… وها هي المانيا ميركل تجد رافعة لها في وجه شرودر المعارض لاحتلال العراق.. الى اخر المنظومة الاوروبية المعادية، وها هي القوى الاخرى الحاكمة تقع في خوف فقدان شعبيتها، او في خوف التعرض للوبيهات الاميركية واليهودية، او في الحنق على العرب الدي لم يعوضوها شيئا على ما خسرته من عدم مشاركتها في الحرب على العراق، فتسقط في مزايدات تتجه الى استرضاء الشارع واسترضاء اليهود، بمبالغة تصل احيانا حد الجنون من مثل تهديد شيراك باستخدام النووي !!
واخيرا تاتي الحكومات العربية الفاسدة والمتواطئة لتحقق مكسبين مهمين: غسل وجهها القبيح والظهور بمظهر المدافع عن كرامة الدين. وتنفيس غضب الشارع المشحون لتحويله ضد اوروبا بدل ان يتحول ضدها وضد سيدها الاميركي واخيرا توجيه رسالة لمن يطالبها بالانفتاح الديمقراطي: تريدون انفتاحا؟ هدا ما سيخرج اليكم.
لقد توضا هؤلاء الفاسدون بغضب الشارع وغسلوا وجوههم من ذنب خضوعهم سجدا لغير الله!!! فهل ستبقى المسرحية على اخراجها الفاشل والعشوائي، او المبرمج لتخريب الفرص التاريخية، دائرة على مسرح، الحقيقي فيه، مقصلة لا تنصب الا لرقابنا؟ ام انه من الممكن تبين عناصر تمرد قد يكون من الممكن توظيفها يوما لتحويل المقصلة الى الرقاب التي تستحقها، عبر الجهاد العسكري الدي نعرف والجهاد المدني الدي دعا اليه المفكر الاسلامي فهمي هويدي، وارساء علاقة تقوم على الاحترام الدي جعله دومينيك دو فيلللوبان معادلا للحرية وعلى اقامة حد مدني يقابل الحد القانوني كما طرح طارق رمضان.