السهل البديع الممتد بين جبال البيينو وجبال الالب، يؤرجحك بين الرغبة في القراءة او الكتابة، وبين رغبة اخرى في تأمل المشهد الغريب التنوع الذي ينشره امامك شباك القطار.
من الشاطىء الرحب بتالب امواجه المزبدة الى الجبال التي لا تنبت اشجارها المغبرة من كف ثلوجها الناصعة، الى السهل المفروش بملاءة بيضاء او بشرشف اخضر من سرير الى سرير.
ليتك لم تكن مواطنا عربيا كي لا يكون لك من هم الا التمتع بتعدد جمالات سهل الَبوالفسيح .
ليتك لم تقع على كرسي القطار على صحيفة الريبوبليكا الايطالبة ، وعلى صفحتها الاولى خبر العراق.تحت عنوان بالبنط العريض الاسود: “العراق يتحدى الخوف والسنة يصوتون”.
التحدي؟ وهل من تحد صارخ يمكن ان يصفعك اكثر من هذا العنوان ؟ والضمير المستتر في هذا العنوان ، وفي خلفية القارىء الغربي الذي حشي راسه بالتشويه ، ان الخوف المذكور هنا، ان هو الا خوف “الارهابيين” الذين يريدون ان يعيقوا “العملية الديمقراطية” التي يناضل لاجلها المحرر الاميركي.
انت لا تحتاج الى التنبؤ ، لان الصفحة الاولى من هذه الصحيفة التي تنطق باسم يسار الوسط الايطالي ، تبدو وكأنها مخصصة لنا ، لبلادنا.
الخبر الاول اعلى الصفحة عن ايطاليا ، وبعد …. خبر الانتخابات ، مقال لسلمان رشدي بعنوان: “المجتمع المتعدد الثقافات” ومقال اخر لكاتب يحمل اسما عربيا، مصريا على الارجح بعنوان: العراق والتطبيع.
الملاحظة الاولى تبدو بديهية لكل من يعرف ان جزءا كبيرا من الخطاب الاعلامي يكمن في تركيب الصفحة. فتقابل خبر العراق مع مقال سلمان رشدي ان هو الا ربط المسكوت عنه ، المضمر ، أي الارهاب، بالاسلام ، حتى قبل ان تقرا . والاشارة الى مشاركة السنة في الانتخابات بالتقابل مع مقالة التطبيع ، ان هي الا ايحاء بأن المقاومة كانت مقتصرة على السنة، ومنها مقاطعتهم للانتخابات ، وان التحاقهم الان بالركب ، هو استكمال لقطار التطبيع مع الاحتلال الذي يرعى العملية الديمقراطية كما يتكرر في الخبر والمقال اكثر من مرة . كما ان الخطاب لا يتجاوز تركيز الخطاب الطائفي التقسيمي بين سنة وشيعة الى ما هو اخطر من ذلك ، أي الى اعتبار هذا الانتماء ، التعريف الوحيد لهوية الانسان الذي يعيش على ارض العراق . حيث يقول الكاتب العربي العبقري بالحرف : ” ثمة حقيقة لا بد من الاعتراف بها وهي ان المشروع الطائفي هو ممر اجباري لتشكل الهوية العراقية ولاصلاح المجتمع العراقي…. ويظل هناك مشكلة اساسية : هناك اربع عراقات يجب العمل على دمجها في عراق واحد بالطريقة الديمقراطية ، ومقاومة القوى المضادة للديمقراطية .”
هكذا وبشحطة قلم تتحول هذه الهوية العراقية المتشكلة منذ سبعة الاف سنة بشكل واضح ومكتمل ، “هوية قيد التشكيل “او بالاحرى” امة قيد التاسيس” كما يقول الكاتب بالحرف.
امة يصر ايضا على انها لا تنتمي الى الامة العربية، بل هي امة متعددة الثقافات والاتنيات، عضو في المؤتمر الاسلامي كماهي عضو في الجامعة العربية.
وبالتالي يصبح هذا التأسيس مهمة يقوم بها هؤلاء الذين تدربوا على الهنود الحمر، واطلقوا على من ابادوا قبائلهم لقب الاباء المؤسسين.
ترى من الذي سيكون له شرف حمل هذا اللقب بالنسبة لبلاد حمورابي ونبوخذ نصر : بريمر ونوح فيلدمان وزلماي خليل زاده ونيغروبونتي، ام هو لقب سيتنافس عليه، بادعاء الريادة احمد الجلبي، والباججي واياد علاوي والربيعي والجعفري وبيان جبر؟ بعيدا عن الكوميديا السوداء المتفحمة، سؤال اخر ملح ولا بد من معالجته: كم علينا ان نعمل على صعيد الاعلام، والاعلام الغربي بالذات ، طالما ان معركتنا لاتدور فقط على ارضنا ؟!!