لم تكن القاعة مرة مليئة كما هي الليلة، ولم يكن الحضور مرة باكثر اهمية وتمثيلية مما هو عليه…. للمرة الثالثة تغص قاعة ريشيليو، القاعة الفخمة العريقة في جامعة السوربون، بالحضور الذين جاؤوا لسماع شهادة حول فرانسوا ميتران. لكن المتحدث الليلة هو جان بيير شفينمان، الرجل الذي رافق الرئيس الفرنسي الراحل مذ كان مناضلا ومحازبا صغيرا شابا، الى ان اصبح وزيرا يتقن كما لا وزير سواه جراة الاستقالة دون العداء، اذ يتقن كما القليلين فن التخلي لاجل الحفاظ على مبادىء واضحة في ضميره وخطه، على راسها فكرة معينة عن الجمهورية، لم يقصر ابدا في توضيحها وتحديد تفاصيلها وترجمتها السياسية على الصعيدين الداخلي والدولي. وقد يكون من باب الدلالة ان ان الكتاب الذي اعطاه عنوان ” فكرة معينة عن الجمهورية تقودني الى….” هو ذاك الذي اصدره اثر استقالته من منصب وزير الدفاع، خلال الغزو الاميركي المقنّع دوليا للعراق عام 1991.
وكما في كتابه، كان الترابط المنطقي متينا بين رؤاه الجمهورية، ومواقفه في سياسته الداخلية، والاوروبية، والدولية ( خاصة الاطلسية منها )، وكان لا بد للحديث من ان يؤدي الى موضوع العراق، ومن ورائه العلاقة مع العرب بشكل عام. لتتاكد مبدئية الر جل اكثر وهو يقول بوضوح : كان تجنب الحرب ممكنا عام 1991، وقد ارسل صدام حسين عدة رسائل تفتح باب التفاوض، لكن الاميركيين لم يكونوا يريدون تجنب الحرب، وميتران لم يكن يريد معارضتهم. فصّل اكثر وتوقف عند حديث له مع زميله يومها ديك تشيني، مضيفا بابتسامة عريضة : استمع الي الرجل لمدة ساعتين وانا اشرح له مخاطر غزو العراق، لكنه، وهو التاجر النفطي، لم يكن الا ليجاملني بالاصغاء، دون ان يغير ذلك شيئا مما في راسه.
وكان الحاضر حاضرا ليعطي مصداقية اكبر لحجج وزير الدفاع المستقيل احتجاجا : فها هي الاصولية العنيفة التي حذر من تناميها تتنامى كما لم يتخيل احد، وها هي الفوضى التي كان اول من جعلها عنوانا للمرحلة القادمة، تصفق باجنحتها المتشعبة كرؤوس تنين لا عد لها ولا حصر، وتهدد بتجاوز حدود العراق لتشمل المنطقة والعالم، وها هي روح الصدام بين الشرق والغرب، الشمال والجنوب، الغرب والاسلام، الابيض والاسود، تنتشر كما رياح طاعون اسود. أي سقف معقول للعالم جعله هؤلاء المحافظون الجدد الحالمون بحمامات النفط، وبركة اسرائيل، ينهار فوق رؤوس الجميع !! واية صعوبة في رد ركامه عن الرؤوس !! لا ليس ما بيننا وبين العالم العربي صدام حضارات، يؤكد جان بيير شفينمان، بل ان علينا نحن ان نكون اكثر استقامة وعدالة مع هذا الجزء من العالم !! همهمة ما تتصاعد من طرف ما في القاعة، لم يرد ان يترك هذه العبارة تمر دون احتجاج.. هم دائما حاضرون ولا يتركون لحظة تمر دون تعبير ضغط واثبات وجود، ونحن ؟؟؟ ماذا فعلنا نحن بدولنا العربية التي لم تغب مرة باموالها وضغوطها والامكانات الهائلة التي تستطيع بها ان تدعم موقف هذا السياسي او ذاك ( بمجرد عقد تمنحه او تحجبه، وفرصة حوار ت تفتحها او تغلقها الخ…) ونحن بملايين الفرنسيين من اصول عربية الذين نستطيع ان نوجه طريق اصواتهم الى صناديق الاقتراع، هذه الثروة التي تضاهي النفط ولا نلقي اليها بالا فلا تلقي بدورها الينا بالا، بل، وعلى العكس من ذلك، كثيرا ما يتم التلاعب بمشاكلها وازماتها وعقدها وضياعها من قبل اللوبيهات المعادية لمصالحنا وعلى راسها اللوبيهات اليهودية، فلا تصب اصواتها الا في صالح من يشحذ سرا سكينا لنا ولها.
ملاحظة اخيرة حملتها من تلك القاعة المؤطرة بلوحات باسكال وديكارت وبوسوييه، هي جلوس امبراطورة ايران السابقة فرح ديبا في احد الصفوف الجانبية، بين الجمهور، تسمع باصغاء، الحديث حول راحل كان حظه افضل من حظ زوجها، ومن فم رجل لا يمثل الا النقيض الكلي لكل ما تعنيه الامبراطوريات…