هذا المساء كل شيء يدفع القشعريرة في الظهر، ” فيروز تدغدغ حتى اعماق الاحاسيس الراقية في راسي وفي شراييني، وصوت نصري شمس الدين يقول لها: ” هيدي غلة الاهالي وانتي ناطورة عليها “، في ساحة الكونكورد وسط باريس المنشغلة بزينة ميلاد الشاب الفلسطيني الذي ساهم الغرب في قتله هناك، ليصادروه رمزا لهم هنا، في ساحة الكونكورد المسلة الفرعونية التي صادرها الغرب كما المسيح تنحني عليّ دامعة، فاهرب الى شريعة حمورابي في متحف اللوفر لاجدها ملتفحة بسواد الهباء حزنا على مفهوم القوانين، اهرب الى كل ذلك اذ يصفعني الانترنت بشيء اخر، قاس، مر ومختلف: مزاد علني للاثار القديمة في احد فنادق العاصمة الفرنسية، تنظمه جهة خاصة من تجار التحف القديمة، يعرض ثلاثمئة قطعة من الاثار النادرة، العراقية واللبنانية والسورية والمصرية، باختصار اكبر اثار سوريا الطبيعية ووادي النيل او لنقل المشرق العربي. هذه الخارطة المستباحة الملقاة على قارعة التاريخ، القفراء من النواطير… اوليست هذه غلة الاهالي؟ اوليس كل جيل من اجيال الامة في موقع القيم على اغلالها في تعاقب اجيالها الذي يبدا من النشوء وينتهي في افق اللانهاية؟….
شريط طويل ينسل من وقائع الذاكرة كما يسحب خيط من جرح لم يلتئم:
في بيروت جعلت الحرب الاهلية غلة الاهالي عبر الاف السنين، هباءا مرميا على رصيف المتحف الوطني الذي تحول من اشارة الى ذاكرة وهوية الوطن، الى اسم لمعبر يشطر جسده بين شرقية وغربية، تختفي وراءهما تسمية مسيحية ومسلمة، او انعزالية لبنانية وقومية تعرف ان الوطن ابعد من حدود المصنع وان نهر العاصي شريان داخلي لا حد فاصل بين دورتي حياة. بين انتماءين لهما ان يتصارعا فيما بينهما وان يحولا سوريا الى معادل لاسرائيل في الخيال المريض لذلك الجزء المحتمي وراء متاريس وحواجز الموت والدم. نهبت موجودات المتحف، وفي قاع عمان يوما عثرت بالصدفة، على ثلاث لوحات ما تزال تحمل ارقامها الرسمية ودمغة متحف بيروت.
في الاردن يقودني العمل على كتابي ” محاولة لاكتشاف الوطن” الى اكتشاف اخر: مسلة ميشع السبية في اللوفر وبوابة المشتى التي اهداها السلطان العثماني لقيصر المانيا, ونشاط لصوص الاثار الذي يسبق دائما نشاط المنقبين
في حلب، يدفعني عملي على فيلم وثائقي عن المدينة عام 1997 الى فك الجدائل الالفية لاحدى مدن الثغور، التي قلما شابهتها اخرى في ثرائها وبعد جذورها في رحم التاريخ. ادخل للسلام على مدينة سيف الدولة في متحفها واجدها متربعة على صدر التاريخ تجمع في حضنها عشتار وحدد، انكيدو وجلجامش، وعشتار الاخرى، العمورية التي تبرز معنى مثلث الدائرة، يكفهر وجهها مع الرياح السوداء المغولية والتترية، لكنها برغم كل عواصف الموت، ما تزال ترفع بيدها الواح مملكتي ايبيلا وماري من الالف الثالث قبل الميلاد،وترفل في الترف المرهف للثانية. اية دعوة مغرية الى الغوص، الى الكبرياء الوطني، الى الاحساس بواجب مقاومة الرياح السوداء الجديدة!! لكن الغوص يقود ايضا الى فضيحة كبيرة هي اختفاء ثلاثة الاف لوح من هذه التي جعلتني اشعر ما معنى ان تكون ابن وطن هو فعلا رحم وحضن الحضارة الانسانية… ثلاثة الاف لوح اختفت، سرقت، والتحقيق لم يقد الا الى ادانة حارس المتحف….. كان هذا الرجل ناطورا على غلة الاهالي كما كانت فيروز في ضيي القناديل، لكن المسكين لم يكن ابدا بحجم سرقة من هذا النوع!!!
لكن كل ما في بيروت والاردن والشام ان هو الا عينات مما كان في العراق، ومن التدمير المبرمج الذي حصل في تلك الارض التي جعلت كرومر يقول ” كل شيء بدا في سومر” وجعلت جان بوتيرو يعنون احد كتبه عن العراق القديم بعنوان: ” ولادة الله ” هناك فعلا ولد كل شيء حتى الله، وهناك يراد الان لكل شيء ان يموت حتى الله. لذا كانت اول اهداف الغزو المغولي الجديد هي القضاء على بطاقة الهوية الحضارية لبلاد نبوخذ نصر. واذا كان الحدث الصارخ الاكثر اجراما في تاريخ الدمار الثقافي هو تدمير وسرقة متحف بغداد، فان الجريمة بدات منذ الغزوة الاولى عام 1991، حيث تعرضت مدينة اور للنهب المريع، وعندما تحركت لجنة الحفاظ على التراث الانساني في اليونسكو للقيام بواجبها في التحقيق، كان شرط الولايات المتحدة عام 1993 للعودة الى اليونسكو ودفع مستحقاتها في ميزانيته هو حل لجنة التحقيق المذكورة ( وقد وجهت يومها ومن هذه الزاوية نداءا، صرخة استغاثة للحكومات العربية الاعضاء في اليونسكو للتدخل، غير ان احدا لم ينتبه الى ان هذه غلة الاهالي منذ الاف السنين وانهم، أي المسؤولين نواطير عليها يتحملون واجب السهر على الامانة)
غلة الاهالي هذه لم تكن مكدسة يوما في مكان كما كانت في متحف بغداد، ولم تدمر يوما بشكل منهجي مقصود كما حصل هناك، وعندما صاح بعض الذين يقرؤون مضمون بطاقة هويتهم كما يقرا اولاد الاصول لا بناديق الحضارة، – صاحوا ينادون المسؤولين العرب للتحرك بشكل او باخر، لفضح ما حصل وللمطالبة برد ما سرق، ولضبط عمليات التهريب، كان الرد انباءا تحملها الصحف عن العثور على كم من هذه المسروقات في اسرائيل، وكان العلماء الاوروبيون هم الذين يكتبون بالحاح، ويبكون على تراث الانسانية السبي. كانت صحيفة ليبراسيون هي التي خرجت بعنوان رئيسي ” الجنود الاميركيون يضحون بابراهيم في اور” لياتي الاعلام العربي بالقليل القليل عن هذا المستودع العظيم للتراث الانساني ولم نشهد تحركا رسميا لا من المنظمات الاهلية ولا من الحكومات لوقف النزيف. وها هي كمية اخرى تعرض اليوم على ارصفة باريس، فمتى يشعر هؤلاء ان اغتصاب امهاتهم وسلالة جداتهم هي عار يجب منعه؟
صحيح ان عملية سرقة اثارنا ليست جديدة، وتكفي زيارة متاحف الغرب لتبين ذلك، لكنها في السابق كانت تسرق من قبل دول تحملها الى متاحفها، فنربح الحفاظ عليها وامكانية ممارسة حق المطالبة باستردادها، اذا اصبحنا بمستوى امتلاك ما هو لنا، ما هو نحن!! غير ان ما يحدث الان هو اخطر، انه سرقة تدميرية تشطب علامات وجهنا الفارقة من سجل التاريخ. فهل لنا نحن، جميع من يدعون الثقافة والنشاط النضالي، ان نضم صوتنا الى صوت الفنان السوري المقيم في باريس، يوسف عبدلكي في نداء الاستغاثة الذي وجهه يوم الاثنين الفائت، متضمنا تفاصيل القطع المسروقة التي ستعرض للمزاد؟ ان نمارس تحركا جماعيا منسقا مدروسا بين اتحادات الكتاب والفنانين وجمعيات الاثار، على امتداد العالم العربي، يستكمل تدخلا صغيرا مبادرا بادر اليه بعض النشطاء العرب والعراقيين مع التجار المزايدين؟….
وطن حاضره كله في المزاد، فهل لنا ان نعمل على عدم ادراج ماضيه وذاكرته ايضا تحت نداء “على اونا على دوي!!”، وذلك على الاقل كي يظل له امل في المستقبل!