المصالحة ! سمعتها وقراتها مرتين هذا الصباح : الجزيرة تمطرني منذ القهوة الصباحية حديثا عن المصالحة الوطنية في العراق، والصحافة الفرنسية تبرز كلام دومينيك دو فيللوبان امس، خلال زيارته لمؤسسة بروتستانتية، عن “المصالحة الوطنية” في فرنسا.
الفارق كبير، رغم ان المصطلح واحد، ورغم وجود اوجه الشبه، وهو فارق يتوزع وراء الكلمة وحروفها، وعبر سياقاتها، على عدة بنود: الفارق الاول، والبليغ الدلالة هو ان رئيس الوزراء الفرنسي يتحدث عن منجز تاريخي، تحقق قبل قرن كامل، وعمرو موسى يتحدث عن حلم عراقي وربما عربي قد لا يكون قابلا للتحقق . غير ان ما يوحدهما هو الخوف، فدوفيللوبان خائف على منجز المصالحة الوطنية الذي كرسه قانون 1905 في فرنسا منهيا بذلك مرارة الحروب الدينية، والصراعات الطائفية، التي كلفت اوروبا عقودا من الحروب كانت فرنسا ساحتها بامتياز . في حين ان خوف أي مسؤول عربي، وعلى راسهم امين عام الجامعة العربية هو من ان يؤدي واقع التخندق الطائفي الى الفناء الكامل، الى القضاء على الوجود العراقي ومن بعده الوجود العربي كله . واذا كان القانون المذكور المعروف بقانون العلمانية قد كرس انتماء المواطن الفرنسي لشيء واحد هو الوطن، مع الاحتفاظ بحقه في الانتماء الوجداني الديني لما يؤمن به ويريده، مكرسا بذلك الفصل الكلي بين الكنيسة والدولة، فانه انما وضع البلاد على خط السلم الاهلي الذي لم تخرج منه الا عندما خرج العالم مجنونا الى ساحات الحربين العالميتين اللتين احتاجتهما اوروبا ايضا لتخرج من منطق القوميات العرقية التوسعية.
اذن فان خوف المسؤول الفرنسي من اية مطالب تعديل دينية او طائفية يمكن ان تخلخل ذلك القانون، هو خوف العودة القهقرى الى ما قبل استقرار السلام الاهلي، ما قبل الحداثة والتطور .
في حين ان بلادنا، والعراق هو الاساسي فيها الان، تشتعل بحرائق الطائفية التي الغت الوطن، لتوزعه محاصصات لا يمكن ان تكون الا مصدر دمار وفناء، معيدة الدولة الى مرحلة ما قبل الدولة، والوطن الى اشلاء متنافرة لا يجد أي منها قوته الا في اضعاف الاخر.
وفي سياق ذلك يحاول المخلصون ان يحاولوا اطفاء الحريق المشتعل بتاجج وما انكاره الا من باب غباء النعامة .
تاجج لم ينتظر عودة عمرو موسى الى القاهرة كي يصل لهيبه الى الاسكندرية، مرددا صدى لالسنة لم تني تتلوى في بيروت، وتتسلل السنتها خفية الى سوريا، تماما كما تتسلل الالسنة الخفية الاخرى من العراق الى الخليج . غير ان هذا الواقع انما يودي بنا الى ملحوظتين: الاولى ان هذه المقارنة الحضارية السوسيو- سياسية، تؤشر على تخلفنا الحضاري، اذ تقول اننا لم نبلغ في العالم العربي مرحلة الحداثة بعد، لم نبلغ القرن العشرين بعد، وما زلنا نعيش مرحلة الحروب الدينية، مرحلة روما التي تبيع اراضي في الجنة، مرحلة ماري دو مديسيس التي تقتل ابنها، لتحفظ المذهب، وربما لتحفظ لنفسها سلطة باسم المذهب . اقول ذلك وانا غير معنية بالجانب العقدي من الموضوع، وانما جانب الانتماء الموحد للبلاد . جانب المصالحة الحقيقية التي تخرج بنا الى مرحلة المواطنة . ومن هنا يصبح واجب اولئك الذين يعتقدون انهم نخب، واولئك الذين يعتبرون انهم واعون،واولئك الذين يعتبرون انهم مسؤولون اومقاومون ان يتصدوا لارساء مفهوم المواطنة التي تضع مصلحة الوطن فوق الطوائف والاثنيات.
اعرف ان الكثيرين قد يقولون: وهل الوقت الان هو وقت الاصلاح الاجتماعي ونحن نرزح تحت الاحتلالات باشكالها، هل نريد ان نطعم العراقيين بسكويت الاصلاح، وهم لا يجدون الا خبز الدم ؟ اجل المسالة اكثر من معقدة هنا، فالمشروعان الاصلاحي الاجتماعي والنضالي التحريري المقاوم، متداخلان بسببية وجودية لا فصل بينها : المقاومة بدون فكر اصلاحي، وتوجه وحدوي وطني لن تلبث ان تتحول الى مقاومات، تؤول سواء انتصرت او تعثرت الى حالة من التدمير الذاتي بين الكتل المختلفة، يوفر على العدو ما يكلفه تحقيقه الكثير . في حال سيكون اشد سوءا من حال التضاد الداخلي الذاتي الذي افرز العملاء وفتح الاخاديد الكبيرة التي دخل منها الاحتلال .
كذلك فان الحديث الاصلاحي بدون الالتزام بخيار المقاومة، انما هو، في احسن الاحوال، من باب بسكويت ماري انطوانيت، لانه في اسواها عملية هرب جبان من واجب المواجهة، وعملية نفاق خبيث يتستر بالاصلاح كي لا يدفع ثمن ذلك الواجب، بل ويمضي الى ما هو ابعد من ذلك، أي الى الاندراج الاخبث في المخطط الاميركي الذي يريد ان يلهي الناس بخطاب اصلاحي وهمي، يعطي الولايات المتحدة مصداقية دولية، ويميع ويمتص طاقات المقاومة وشحنها النفسي على الصعيد الداخلي، ويؤدي في النهاية الى تثبيت المتعاونين مع مخطط الشرق الاوسط الكبير وتداعياته .
من هنا ياتي الفارق الاخر الكبير بين مصالحة يحرص دوفيللوبان الحريص على بلاده،على حمايتها، وبين مصالحة لم تبادر الجامعة العربية اليها الا بعد اشارة من السعودية، التي لا نعرف ما اذا كانت قد تلقت بدورها الاشارة من حس، هو الاخر طائفي، ام من جانب الطرف الاميركي نفسه الذي لا يهمه شيء الان الا تمييع المقاومة العراقية، ام من الاثنين معا .
الم يكن الاحرى بالجامعة العربية ان تعلن دعمها للمقاومة بكل اطيافها وتعمل على توحيد تلك الاطياف، كي تكون المصالحة حقيقية وعلى اساس وطني بل الم يكن من الاحرى بها ان تهتم الان بالموضوع السوري كي لا تلحق سوريا بالعراق، حربا ام سلما … ام ان شرط الحرب الاهلية لم يتحقق بعد كي يحصل التدخل العربي، الذي لا بد وان يأتي بعد الاجنبي والدولي، وهدر سيادة الوطن ودماء ابنائه؟