لبلادنا طعم الانين المكبوت ، رائحة المشاحر اذ يختنق في جوفها اللهب.
لبلادنا ونحن بعيدون حضور صاعق، ساحق، في الغياب! هل لك ان تغير دمك، وامك ؟ ولكن ماذا تفعل اذا أصبح دمك فقيرا حد الفاقة، وامك ممتهنة حد الذل؟ ملعونة شاشات التلفزة، الم يكن عذاب الاذن يكفي ؟ حرمت عليك الاغماضة ولو افتعالا، وحرمت عليك الهداة ولو تعبا! شاشات كتلك القطرات أو الأصوات التي تسلط في سجون التعذيب لتمنع المعتقل من النوم، وانت معتقل دمك واسمك! جلادك، ليس الاخر وانما ذاك الذي من رحم امك، من ظهر أبيك، ولتذهب الصلات وحرماتها الى الجحيم. جلادك ليس الشخص وانما الخطاب: خطاب يستخف بعقلك، بكرامتك، بانسانيتك، بما أنت وبما يمكن ان تكون. عالم من الاشباه ، يراد لك ان تعترف بانه عالمك: اشباه السياسيين، اشباه المثقفين، اشباه الرجال واشباه النساء، بل واشباه الاطفال !! عالم لاتدري من الذي يرسمه لك، وان كنت تدري فمصيبتك أعظم .عالم لا تملك ان تهرب منه ولا تملك ان تهرب اليه، لا تملك الا ان تواجهه وان تكون مواجهتك من نوع تلك التي خاضها يوسف العظمة في ميسلون، ” كي لا يدع التاريخ يسجل…” مر النهار وشيء عميق يمنعني من فتح شاشة التلفزيون، لا أريد ان أرى المحكمة المهزلة ، لا أريد ان اسمع خبر لبنان وسوريا، لا اريد ان اشاهد فصلا اخر من مسلسل التآمر العربي على كل ما هو عربي، ولا اريد ان ارى برنامجا غربيا يجعلني احقد اكثر، اذ افهم المأساة اكثر او اقارن. لكن وقود المقاومة لا يمكن الا ان ينفذ الا لمن اصيب بموت حركة الدم في العروق وقشعريرة الاحساس في الجسد والروح. استسلم لحرقة السؤال، لاساق كمواطن عربي الى مقصلة الكرامة مع محاكمة صدام حسين، الى مقصلة الاحتقار والاستخفاف والناطق الرسمي باسم ما يسمى حكومة يتحدث للجزيرة عن محاكمة ”كاملة السيادة في عراق مكتمل السيادة !” أما الكيف ، فسؤال لنا ان نهزأ من توجيهه ولهم ان يهزؤوا من استخفافهم به. ورحم الله الكواكبي والمفاهيم المقلوبة، ومصطفى وهبي التل ومسرحيته ” عبيد العبيد”، ولو كان أبو وصفي حيا لاضاف الى العنوان: ” المتغنون بالحرية ”. اهرب الى التلفزيون الفرنسي، فلربما رأيت شيئا آخر: الموضوع نفسه، ولكن بتفصيلات اكثر، وموضوعية اكبر: ”القضاة عراقيون، لكن ما من احد يجهل ان الاميركيين يمسكون بكل الخيوط ” يقول المراسل الفرنسي من بغداد. مقارنة بسيطة، وتجد ان البث الفرنسي قد احتفظ بكامل مشهد البث المباشر حتى نشرة منتصف الليل، في حين ان البث العربي ، حذف من النشرات اللاحقة للبث المباشر اللحظات الاولى التي بدا فيها الرئيس العراقي وبيده المصحف ويقرأ ايات منه. وكذلك احتجاج مسؤول اخر على انتزاع عقاله. ملاحظة قد تبدو بسيطة وشكلية، ولكن المحلل الاعلامي يعرف كم هي ذات دلالة. اذ ليس المقصود من الاعلام التوثيق للتاريخ، وانما التأثير في الرأي العام، لا في وعيه فحسب وانما في النداء الذي يخاطب لا وعيه.
واللقطة الاولى النتعلقة بالحركة الدينية التي عمد اليها صدام، من شانها ان تترك تاثيرين متناقضين بحسب المتلقي: فالاعلام الغربي يريد ان يستفز المشاعر المتوجسة من الاسلام، ضد صدام حسين وحكمه وما يمثل، كما يريد ان يعبر الى ترسيخ ربط واع او غير واع مع الارهاب، احد تبريرات حرب جورج بوش . في حين ان الاعلام العربي يحرص على الا يثير لدى المتلقي العربي التعاطف الذي يمكن ان تخلقه هذه المسلكية، كما يحرص على الا يمسح من ذهن الناس صورة الحاكم المجرم الطاغية التي عمل هذا الاعلام نفسه على ترسيخها منذ الاحتلال. ولذا بقيت هذه اللقطة في النشرة الاوروبية وشطبت من النشرة العربية. من جهة ثانية ينطبق التحليل نفسه على ما يمثله العقال في الوعي الجمعي العربي من معنى مرتبط بالكرامة، والرجولة، وذاك معنى لا يراد تنبيهه وتفعيله، حتى ولو في اللاوعي. بينما لا يعني الامر شيئا للمتلقي الغربي، لا سلبا ولا ايجابا، ولذلك شطبت الفقرة المذكورة في النشرتين العربية والاجنبية. تغطية اعلامية قد تكتب عنها كتابا، لكنك لا تجد ما يكفي من الوقت، وسائر الاحداث والاخبار تتوالى كلكمات لاعب ملاكمة بارع يعرف ان اهم ما في قانون لعبته، الا يدع خصمه يستريح او يستعيد وعيه وتركيزه بين لكمة واخرى. لا ولا ان يمتلك صوته ليطلق أنينه المكبوت، ولكن الى متى؟؟