“يدخل العالم المذال في عتمة.. فيكون العماء” لكأنها ترجمة بيت من ملحمة الاينوما ايليش البابلية، او أي اخر من الالواح التي حطمها الغزاة في المتحف العراقي، هذا الذي استله من قصيدة الشاعر الصديق حميد سعيد.
من وردة الكتابة الى غابة الرماد، اقرب من ان يكون ديوانا عاديا ان هو الا شهادة على الحدث التتري الذي رسم حاضر العراق والعرب كلهم بالدخان الاسود. اخر قصائده تلك التي وصلتني يوما عبر الانترنت، عن تدمير المتحف العراقي، فاذا بها اول صلة لي بواحد من الاصدقاء الذين سكننا السؤال عن مصيرهم بعد حريق هولاكو.
واذا بي لا اجد فيها فقط شهادة على الحدث، وانما وسيلة لمقاومته والتصدي له، ليس فقط بتوظيف الرموز التاريخية والاسطورية التي استهدفها الغزاة فيه، وانما ايضا بتوظيف شكل شعري مسرحي عرفته بلاد ما بين النهرين، كاول نص مسرحي منفذ موضوعه سقوط مدينة اور الكلدانية. فهل كان حميد سعيد يستعيد رثاء اور ليرثي بغداد، مضيفا قصيدة كبيرة الى ارث رثاء المدن في تاريخنا؟ ام انه كان يحاول ان يتلقف ككفي ام هلعة، دماء ارثه المذبوح ليجسدها ويحفظها منحنيا عليها مطوقا اياها بذراع القصيدة؟ القصيدة التي استفاقت ملحمة متوجسة، لترد على الفناء: ” تحت قصف صواريخهم وقنابل احقادهم يستفيق تراب العراق.. وتدنو ملاحمه متوجسة..
حيث كان دم مفعم بالمروءات ينزل من شرفات المنازل… من شجر يتحامى شظايا القنابل” اهو ذاك الدم الذي سرى في شرايين القصيدة، فتفجرت، تصرخ ب ”الجنون، الجنون، الجنون ”في ثلاثية لعلها الطلاق البائن مع الفرح، ولكن ليس مع الحياة، لا ولا مع الامل.
فبقدر ما تتنامى صرخات الالم ازاء الموت: ” بغداد.. احس بما انت فيه من هؤلاء ومن هؤلاء ” وبقدر ما تحفر السكين عميقا في جرح رجل عاش الماسأة ليرسمها بواقعية حسية رهيبة، بقدر ما تصر لمحات الايمان على الاحتفاظ بمكانها القابع عميقا في قرار الروح: ” ” أي البيوت ستختاره الطائرات عشاء؟ واي القرى تاكل النار؟ أي احبتنا سيكون الفداء؟”..
” وجاراتنا يعددن اسماء من قتلوا في البيوت القريبة.” ماساة كونية تشارك فيها حتى الطيور، فتضيع اعشاشها والكلاب اذ تموء والقطط فتبكي، ويسال كل من تلتقيه : ” لماذا اتيت؟ غير ان بغداد لا تلبث ان تقبل من البسملات والقباب والهدى…. ” من مدى ليس غير العراق مداه.” ان هي تقبل في الحقيقة من ايمان ابنائها، فتيانها الذين ”يعترضون الغزاة باجسادهم، غير عابئين باللصوص الصغار الذين يهجوهم الشاعر، لا ولا باللصوص الكبار الذين ترسمهم قصيدته النداء لادغار الان بو، والتحدي لجورج بوش وما يمثل : ” تتدلى العواصف من ناطحات السحاب اخرق وكئيب غراب الن بو”…..
”كن قاتلا مثلما انت… لكننا سنكون ارايت الشعوب… تخرج من كل فج عميق؟ ارايت احبتنا يقطعون عليك الطريق؟” طريق لاتحمل القصيدة شيئا بقدر ما تحمل بان نهايتها لن تكون الا الى استعادة الحياة وعندها تاتي لحظة حساب التاريخ، تلك الاشبه بيوم القيامة او بمحاكمة رمسيس في الميتولوجيا المصرية، محاكمة تنتهي الى اعلان واضح ” ليس الذي باع تاريخ بغداد منها.”
ستذكر بغداد اسماء من حرقوا وستذكر بغداد اسماء فتيتها الذائدين..
ومن دافعوا عن حماها..
وتذكر اسماء من خانها.
وستذكر اسماء من شغلته الغنائم عنها وتذكر اسماء من كذبوا في ادعاء الشجاعة او في ادعاء النزاهة او في ادعاء العلاقة بالله ” في سائر قصائد ديوانه، الاول بعد الطوفان الاسود،، لا يكف حميد سعيد عن استحضار جميع الرموز الاسطورية ايضا، حتى في قصائد الغزل التي شكلت نصف الديوان، فاذا المراة التي تستطيع ان توقظ في الشاعر الاناشيد، هي تلك التي لاتختزل ”الخزف الازرق العراقي، الحمام الفراتي، ننماخ القباب، بابل، اور، اشور، دمشق، بغداد، فاس، الخ…” لكان المراة التي تمتلك القدرة على احياء الاناشيد في لحن الشاعر ان هي الا تلك المجبولة بارث الوطن، تلك القادرة على ان تقوم بدورها بتجسيد القيم المهددة.
واذ اتت فلينادها : ” يا التاخرت ”: ” الاناشيد سارقة النوم كنت ابتعدت…. وفارقتها نمت الاناشيد توقظني… من جديد” فهل هي فعلا متاخرة ام انها جاءت كقدر في وقتها لتساعد الشاعر على ان يجمع ” ما تشظى من نشيد الروح” كي يغني به نشيد وطنه المحتل المقاوم، شاهدا، مؤرخا، وشاحنا، كما يجب ان يكون شاعر نسبه قدره لمكان وزمان معينين؟