فيلم اكشن من الدرجة الاولى، وعلى الطريقة الاميركية، يقدمه لنا التلفزيون الفرنسي : شاب مغاربي، عربي، تراقبه الشرطة في احدى ضواحي العاصمة الفرنسية، تلاحقه، من داخل شقته الى الشارع، الى المكان الذي يقصده، تركز الكاميرا ¢ زوم ¢ على يده وهي تندس في جيبه، ثم وهي ترفع القميص لبظهر المسدس من تحتها، ورجال الشرطة، اين منهم شارلوك هولمز، او حتى ابطال الافلام الهوليودية في التربص والتخفي والمتابعة في السيارة والكمون والانقضاض.
الى ان…. نصل اخيرا الى القاء القبض على المعني. لماذا ؟ – لانه كانت لديه رغبة في تنفيذ اعمل ارهابية، كما قالت الشرطة وكما يركز وزير الداخلية نيقولا ساركوزي في برنامج تلفزيوني امتد اكثر من ساعتين بعد الفيلم.
امتداد انتقل من باريس الى العراق فالى سوريا. بعد ان مر مرورا لماحا عابرا بباكستان.
ساركوزي يؤكد، في خطاب لا يشكل الا نسخة من خطاب جورج بوش، انه مسؤول عن حماية الفرنسيين، وانه مستعد لاجل ذلك لاتخاذ جميع التداببير الاحترازية، ومنها تشريع اعتقال الناس لمجرد الشك. وعندما تساله المذيعة عما يمكن ان يقوله لناس ذبهم الوحيد مجرد الشك، يرد بان هؤلاء يعرفون ان لدينا اسئلة كثيرة نوجهها لهم. ولا تعود هي لتساله منذ متى اصبحت الرغبة في طرح اسئلة مبررا للاعتقال وتشويه السمعة ؟
من ثم يطرح الوزير الفرنسي نموذج بريطانيا قائلا اننا تعلمنا من البريطانيين اربعة امور : التركيز على مراقبة الاتصالات، التركيز على التنصت على المكالمات الهاتفية، وتسجيل المراسلات بالانترنت، وتركيب كاميرات المراقبة…. ليخلص الى استنتاج غريب هو القول بان من حق الكنس اليهودية في فرنسا تركيب كاميرات المراقبة.
بعدها نعود الى الفيلم الذي ينتقل الى العراق ليبرز تطوع عرب فرنسيين في صفوف ¢ الارهاب ¢ هناك، وعلى خلفية صورة لعمارات بغدادية نسمع نداءا طويلا باللغة الفرنسية لتتطوع وقتال الكفار، نداء يكرر فيه المتطوع الذي يوجهه اسمه ولقبه، ولا نلبث ان نرى صورة يقال لنا انها صورة صاحب الصوت. وتقدم لنا ام هي ام احد المتطوعين، وحوارات وشهادات ننتقل بعدها وفجاة الى سوريا، لترسم لنا صورة مشهد من لقاءات مساجد – ان هي الا مجرد صلوات جمعة – ولقاءات مع رجال دين تستقطع منها عبارات يجعل منها المونتاج شهادة على ان التجنيد للعراق يتم عبر سوريا.
برنامج طويل طويل، مدروس وان بدا غير ناجح لنا نحن المطلعين الا انه ينجح في اختراق عقل المشاهد العادي. ليوصله الى عدة اهداف ارادها وزير الداخلية الفرنسي الذي يعمل بجهد واصرار على شق طريقه الى الاليزيه، ويعتمد في ذلك اعتمادا اساسيا على اللوبي اليهودي وانصار الامركة والاسرلة.
ففي الهدف الاول، يحقق هذا الطرح تشويها مدروسا لثلاثة اطراف : مسلمي فرنسا، المقاومة العراقية، سوريا
وهنا يصبح مسلمو فرنسا في قفص الاتهام، مما يقودهم الى واحد من اثنين : اما التشنج والعداء للفرنسيين الاصليين، واما محاولة دفع التهمة بتقديم اقصى التنازلات السياسية وتحديدا بخصوص العراق وفلسطين وسوريا. وفي الحالين يكون الصهاينة هم الرابح الاكبر، اذ انه كلما ازداد التشنج والاصولية بين الفرنسيين والفرنسيين من اصل عربي، كلما وجد اليهود في ذلك مدخلا للسيطرة على الاثنين. مما يجعل من تعميق الشرخ بين الطرفين ستراتيجية صهيونية ثابتة.
من جهة ثانية، يحقق تشويه المقاومة العراقية، وتقديمها بقناع اصولي ارهابي متزمت، معاد للغرب وللمسيحية بدون تمييز، خدمة اساسية جوهرية للستراتيجية الاميركية الصهيونية التي تخوض حرب بقائها المصيرية على ارض العراق. ومن ضمن تلك الخدمة تخفيف حدة معارضة الراي العام الفرنسي للاحتلال، بل وتحوله الى معارضة المقاومة.
اما سوريا، وفي الهدف الثالث، فليس مما يحتاج التوضيح الاشارة الى اندراج تهمة دعمها للارهاب في اطار الضغوط المتصاعدة عليها، وتركيز التهمة الاميركية بانها معبر الارهابيين الى العراق.
بعدها ياتي استشهاد ساركوزي بالتجربة البريطانية، ليصب في سياق الجدل الحامي الذي شهدته بروكسل منذ اسابيع بين الدعوة البريطانية لتبني البرلمان الاوروبي قانونا ينص على الزام شركات الهاتف والانترنت بتسجيل المكالمات والرسائل ووضعها في تصرف الشرطة لمدة تتراوح من ستة اشهر الى سنة. مما يشكل خطوة على طريق تحديد الحريات والتجسس على الافراد، تلك الطريق التي يدعو اليها الاسرائيليون بالحاح منذ نهاية الثمانينات، بقيادة موشيه ارينز وتلميذه بنيامين نتنياهو. حيث كرس هذا الاخير هذه الستراتيجية في كتاب حمل عنوان ¢ استئصال الارهاب ¢ صدر عام1995
وعاد الى تجديد النظرية وتحويلها الى برنامج عمل عملي مرحلي ودقيق، في خطاب القي امام الكونغرس بعد احداث 11سبتمبر.
ساركوزي الذي يحاول التستر على يهوديته، بادعاء التنصر، لا يتستر ابدا على دعمه لاسرائيل وقد بدا معركته من الايباك وهرتزليا، لنسمعه يخطب قبل يومين في لقاء الحوار اليهودي المسيحي، قائلا : ¢ نحن… لم نعش الهولوكوست لنسمع بعد ستين سنة سؤالا حول اليهود في اوروبا، لا يستطيع احد ان يلوم اليهود على تاييدهم لاسرائيل ¢
كذلك لم يتستر الرجل ابدا على عدائه لفكرة الاستقلالية الاوروبية عن واشنطن، بل اعرب عن استعداده في حال فوزه للعودة الى الحضن الاميركي، بل وفك الارتباط الفرنسي – الالماني، لاقامة بديل مع ايطاليا او بريطانيا.
غير ان ذلك كله لا يعني ان الطريق مفتوح بدون عوائق امام هذا المهاجر المجري الطموح، اليهودي المتنصر المتصهين، الذي نجح في الوصول الى راس احزاب اليمين المعتدل. ليس فقط لان له منافسين في صفوف اليسار الخصم، بل لان اليمين نفسه ما يزال ساحة صراع حاد بين خطه وخط شيراك – دوفيللوبان. صراع قد يحسم لصالح تبني ترشيح الاخير للرئاسة القادمة. وهنا تبرز اهمية الصوت العربي خاصة والاسلامي عامة. كما تبرز اهمية الدعم الذي يمكن ان تقدمه الساحات العربية كلها لرئيس الوزراء الحالي الذي نحفظ له خطابه الشهير في مجلس الامن خلال ازمة العراق.
على ان علينا الاننساق ابدا في المخطط الهنتنغتوني الذي يصور لنا ان عداءنا للاخر هو ضمان هويتنا، بمعنى ان التطرف الاسلامي، والخطاب المتشنج او الارهابي، وكراهية الاخر دون تمييز، لن تؤدي الا الى رفع مستوى حوار الطرشان بيننا وبين الغربيين، حتى ممن يمكن لنا ان نفيد من علاقتنا معهم. من هنا ان علينا ان نفعل توعية الجالية العربية في فرنسا كما في غيرها لدعم القضايا العربية، ولكن علينا بنفس الاهمية ان نحول دون تحول ذلك الى عدائية مؤذية للوطن المضيف، الذي تحول الى وطن ثان.