كتب الي احد الاصدقاء الفرنسيين، يطلب مني مساهمة في ملف يعده مركز الدراسات الذي يديره، حول سؤال : هل تصبح اوروبا قارة مسلمة ؟ وما هو مصير العلمانية والتعددية في اوروبا ؟
وقد حاولت ان الخص البحث الذي ارسلته له، فيما تتسع له مساحة مقال.
كتب الفيلسوف الالماني غوته يقول : الذي لا يعرف ان ياخذ العبر من ثلاثة الاف عام يعيش يوما بيوم.
فما هي العبر التي يمكن لنا بها ان نقرا الجواب على السؤال الذي يؤرق الغرب المسيحي اليوم، وبشكل خاص اوروبا، بشان الاسلام.
بشان الاسلام كدين وحضارة ينتمي اليهما عالم اخر موجود في الشرق، وبشانه ايضا كدين وحضارة ينتمي اليهما ملايين المهاجرين الذين يتارجحون بين هوياتهم الاصلية الموروثة وهويتهم الحالية المكتسبة ؟
العبر تبدا بحسب غوته من ثلاثة الاف عام، وهي تنقسم الى ثلاثة اقسام :
العبرة الاولى، تاتي من مجيء الاسلام والمسيحية الى المنطقة العربية وخاصة المشرق العربي، وعلى الاخص سوريا الطبيعية.
ففي هذه المنطقة، وللصدفة التاريخية كان نزول الاديان، مما نتج عنه ان التحولات الدينية المختلفة لم تحمل معها تحولات حضارية وافدة ، اتنية او ثقافية، لان الشعب نفسه، المزيج التاريخي نفسه، السلالة التاريخية نفسها هي التي انتقلت اجزاء منها الى الاسلام وبقيت اجزاء اخرى على المسيحية.
والعبرة الثانية تاتي من دخول المسيحية والاسلام الى اوروبا.
ان المسيحية عندما دخلت اوروبا كانت بحد ذاتها ثقافة غريبة وافدة، حيث يقول الفيلسوف النروجي جوستيان غاردير ان مجيء المسيحية الى العالم الاغريقي اليوناني قد ترجم الى صدمة بين حضارتين، هذا مؤكد لكنه كان ايضا منعطفا حاسما في تاريخنا ( اي التاريخ الاوروبي ).
حضارتان لم تلبثا ان وجدتا نفسيهما مضطرتين بحكم قوانين الطبيعة وعلم الاجتماع، الى تشكيل صيغة جديدة، دينية وحضارية.
وفي هذا يقول غاردير ايضا : ” جاءت المسيحية النروج في حوالي 1100 ميلادية، لكنه من المبالغة القول ان النروج قد تنصرت كليا بعد هزيمة ستيكلستاد. حيث استمر عدد كبير من المعتقدات الوثنية يتجول تحت سطح المسيحية واختلطت عناصر كثيرة مما قبل المسيحية بالعناصر المسيحية. معطيا مثالا على ذلك طقوس عيد الميلاد والزواج.. منتهيا الى عبارة مفتاح ” ان كل طرف من طرفي الزواج راح يحاول ان يشبه الاخر ”
من هنا كان من الطبيعي ان تختلف المسيحية الغربية عن المسيحية الشرقية، لان طرفي الزواج مختلفين.
اما العبرة الثالثة فتاتي من علاقة الحضارتين العربية الاسلامية والاوروبية المسيحية بالثقافة الاغريقية الرومانية، من جهة وبالحضارات الشرقية القديمة من جهة، حيث استقت كل منهما منجزات هذه الحضارات السابقة، لتنقسم الى ثلاثة خطوط حضارية في القرون الوسطى، عادت فالتقت في مطلع عصر النهضة الاوروبي، لتكوّن النهضة.
غير ان ثمة عبرة رابعة تكمن في الفارق بين مجيء المسيحية الى اوروبا، ومجيء الاسلام. فالاولى جاءت رسالة روحية كلية، ولم تتحول الى صيغة دنيوية سلطوية الا على يد الكنيسة الغربية، اي انها اصبحت سلطة على الغرب الاوروبي وسلطته هو على الاخر . في حين ان الاسلام جاء مرتين : المرة الاولى : سلطة دينية ودنيوية : دين ودولة فاتحة بقوة الحراب. وفي المرة الثانية نتيجة انحسار المرحلة الكولونيالية الغربية، التي احتلت بلاد المسلمين بالحراب. مما نتج عنه خاصيتين خطيرتين : الاولى هي الحذر النابع من ذاكرة الحرب والقوة وسيطرة طرف على الاخر.
والثانية هي ان هؤلاء المهاجرين المختلفين دينيا، هم ايضا مختلفون اتنيا وقوميا وحضاريا.
لكن قواعد حقوق الانسان، وقواعد علم الاجتماع تحتم تحولهم الى مواطنين، بشرطي الزمن والاندماج، المترابطين سببيا فكيف يمكن تحقيق ذلك مع تجاوز خيار صدام الحضارات الذي لا يمكن الا وان يصب في خط دمار الطرفين ؟
لم يعد ممكنا لاوروبا ان تتخلص من مسلميها، ولم يعد ممكنا للمسلمين الاوروبيين الا ينتموا لاوروبيتهم. لن تصبح اوروبا قارة مسلمة لان الحضارة الحاضنة، المستقبلة هي الاساس، ولكن لن يصبح مسلمو اوروبا مسيحيين لانه خيارهم. والحل ؟
مرة اخرى، هو التاريخ الذي دل الى طريقه غوته. فالقارة العجوز لم تخلص من حروبها الدينية ولم تخرج الى نهضتها الا بالعلمنة. العلمنة بمعنى ضمان الحرية الدينية لجميع الناس، ايا تكن معتقداتهم. وضمان فصل جميع هذه المعتقدات عن الدولة.
هل يعني ذلك القول باسلام اوروبي ؟ اجل، كما تحدث لنا جوستيان غاردير عن مسيحية اوروبية، تطور تشكلها مع الزمن. انه قدر الزواج وشرط نجاحه.
غير ان هذه النتيجة ايضا هي التي تقود الى البعد الاخر في الجانب السياسي من الموضوع، وهو ان الزواج لا يمكن ان ينجح اذا ما كان احد الطرفين لا يحترم اهل الزوج الاخر لا يتفهم قضاياهم ، يسيء اليهم، او يضطهدهم.