بين محورين يقف العالم: محور صدام الحضارات ومحور حوارها. واذا كنت من المؤمنين بان الخيار الثاني هو الذي يجب ان تتبناه الانسانية بشكل عام فانك تدرك ان عليك انت كعربي ان تقاتل لاجل الحفاظ عليه وارسائه. وذلك لاسباب عدة، منها ما هو براغماتي ومنها ما هو مبدئي.
فمن الناحية المبدئية، انت كعربي تنتمي الى حضارة قامت على الحوار مع الحضارات الاخرى، واستطاعت بذلك ان تبني صرحها الكبير. تفاعلت مع علوم ومعارف الاولين، ترجمتها، طورتها، تبنتها وبنت عليها منجزاتها. وتفاعلت مع مختلف الاعراق والاديان وبنت معها مرحلة من ارقى مراحل الحضارة الانسانية.
اما على المستوى البراغماتي المرحلي، فانت الان الاضعف، اذن فانت الخاسر من أي منطق صراع. وانت المستفيد من أي حوار.
ومن جهة اخرى انت الان كحضارة عربية اسلامية تتعرض للاستهداف كما تتعرض للتشويه باسوا تجلياتهما، ولذلك فان من مصلحتك اقامة حوار يعطيك الفرصة لابراز وجهك على حقيقته، كما يعطيك فرصة تحجيم الاستهداف الذي يريد تحطيم كل مقومات حضارتك.
من هذه المنطلقات لا بد ان تكون منحازا بحماس الى العمل في اطر الحوار على المستويات المحلية والدولية، لكن عليك ان تكون حريصا على اقصى درجات الحيطة والحذر ، كما تقول الارصاد الجوية، كي لا ينزلق هذا الميل الى منحدر ينصبه لك الاخر فتجد نفسك في حضنه وفي خدمة اهدافه هو من الحوار.
ورغم ان الحوار يجب ان ينصب على موضوع الحضارات لا على موضوع الاديان لاسباب نتناولها في مقال الغد، الا ان البحث عن القواسم المشتركة بين الاديان وابرازها ليس عملا سلبيا خاصة بعد منطق تضادها الذي عززته احداث الحادي عشر من سبتمبر.
لكن القضية المربكة هنا هي : كيف تتعامل مع ادماج اليهود في هذا الحوار؟
هل تبعدهم كليا، ام تقبل محاورتهم ايضا كما هم؟
بالنسبة لاي مؤمن بالقيم الانسانية ثمة معيار انساني لا بد من التاسيس عليه، وبالنسبة لاي عربي ثمة معيار سياسي لا يمكن اغفاله.
المعيار الانساني هومعيار المساواة بين البشر بصفتهم بشرا امام وجه الله. لا فضل لعربي على اعجمي، ولا تمييز بين انسان وانسان بالولادة، والا فانت في جوهر العنصرية. وتطبيقا لهذا المعيار يقول لك الاسلام ان الله هو رب العالمين وتقول لك المسيحية على لسان السيد المسيح: انا ابن الانسان، وجئت لاخلص العالم (لا المسيحيين او شعبا بعينه). بينما يقول لك قطاع كبير من اليهود انهم ابناء الله بينما البشر الاخرون ابناء الناس (العجماوات) التي لا ترقى الى مستوى الانسان ذاليهودي، وتمضي التفسيرات الفقهية الى ان الله خلق هذه العجماوات على شكل اليهود كي يليقوا بخدمتهم. بل وتترجم عمليا بقوانين تمييز عنصري تصل حتى تحليل دم الغوييم وتمييز جرم قتل الانسان العادي عن جرم قتل اليهودي.
هذا المنطق هو منطق لا يمكن التحاور معه، ومن هنا فان ما قصدته بالمعيار الانساني هو ان الحوار لا يمكن ولا يجوز الا مع من يعلن التخلي عن هذه المفاهيم وتبني اخرى انسانية عادلة.
المعيار الثاني هو المعيار السياسي، وهو المتمثل في المشروع الصهيوني وترجمته العملية في الاحتلال الاسرائيلي القائم حاليا وفي حلم مد ذلك الاحتلال وتلك الهيمنة التهويدية الى سائر مناطق اسرائيل الكبرى، كما يحصل الان على ارض العراق، ومن هنا لا يصير الحديث فقط عن يهود اسرائيل وانما عن الجهات الداعمة لهم من يهود العالم، تلك الجهات التي تشكل اللوبيهات اليهودية الصهيونية والشخصيات اليهودية التي تخدم اسرائيل في الخارج اكثر مما يخدمها سياسيوها في الارض المحتلة. وهنا لا يمكن الحوار الا مع من يعلن تبرؤه من الايمان الصهيوني ومن دعم اسرائيل.
تطبيقا لهذين المعيارين المذكورين ياتي الحكم على مؤتمر حوار الاديان المنعقد في الدوحة. حيث تحولت فكرة اشراك اليهود الى تطبيق جعل المؤتمر مؤتمر اليهود، واليهود الصهاينة. فبعد كلمة الافتتاح لسمو امير قطر كانت الكلمة مباشرة لرئيس المجلس التمثيلي للمنظمات اليهودية في فرنسا، وهو المجلس المعروف بأحرفه الاولى (كريف).
هذا المجلس يضم اولا جميع المنظمات بما فيها حزب حيروت الذي يشكل الامتداد المتشدد لحزب الليكود الاسرائيلي، كما يضم البيتار وهو التنظيم الليكودي المتشدد والذي يمارس العنف الصهيوني المنظم منذ كان يقوده مناحيم بيغن في بولونيا قبل الحرب العالمية الثانية ولم يزل في اوج عنفه على الساحة الفرنسية. ويضم منظمات من مثل التجديد اليهودي الذي اصبح رئيسه سابقا رئيسا للكريف وتباهى بانه حول الطائفة اليهودية من طائفة دينية الى لوبي سياسي.ويضم… ويضم… ما يجعله قوة كبيرة مسلطة على راس كل مناصر للقضايا العربية وكل مناوىء للصهيونية في فرنسا.
رئيسه هذا افتتح مؤتمر قطر واختتمه رئيسا للجلسة الاخيرة التي كنت مدعوة للحديث فيها واعتذرت عندما اكتشفت من يراسها اضافة الى حاخام اخر يفترض ان يتحدث فيها ايضا. وبين الافتتاح والاختتام خمس جلسات يشارك فيها اربعة حاخامات واستاذا لاهوت يهودي تشير توصيفاتهم الوظيفية، حتى لمن لا يعرف عنهم شخصيا، الى خطورة المواقع التي يحتلونها، فعلى سبيل المثال يعرف الحاخام كريمر بانه من »الكلية الحاخامية لاعادة البناء« ومعروف ان هذا المصطلح انما يعني اعادة بناء الهيكل على انقاض المسجد الاقصى المبارك.
يبقى ان حجم المقاطعة كان كافيا للدلالة على حجم الخطا وعلى خطورة الوضع، حيث لم تشاهد في الصالة أي من الوجوه العربية والاجنبية المعروفة في مجال حوار الحضارات. وحيث جاء غياب الشيخ القرضاوي معلنا ولافتا، وحتى حضور امير قطر شخصيا لافتتاح اعمال المؤتمر لم ينقذ الوضع فلم تستطع كاميرات التلفزيون ذ وانا شاهدت العرض على التلفزيون ذ ان تلتقط الا قاعة نصفها فارغ رغم الحضور الرسمي.
لكن ذلك كله لا يعني الركون الى المقاطعة، اذ انها بداية ولا ندري الى أي منزلق يمكن لها ان تؤدي بنا اذا لم يقم عمل عربي منظم يحول دون تكرار الخطا. فمن يقول اننا لن نرى في عام قادم شيمون بيريز او شارون يشاركان في الاحتفال او اوفاديا يوسف يخطب في بلد عربي؟
والسؤال الاخطر هو: اية عمليات تهويد للعقل والذين ستلي ذلك؟