عندما يدور الحديث في الموضوع العراقي عن الحل السياسي، فانما يستتبع ذلك السؤال الاخر: حل سياسي لمن؟ او بمعنى اخر لتحقيق مخططات واهداف من؟
والجواب اكثر من بسيط اذا ما نظرنا الى ماهية الاهداف الاميركية وطبيعة الاهداف العراقية. فقبل الحرب وقبل الاحتلال، كان هناك مشروعان متقابلان: العراق يريد بناء قوة ذاتية سياسية اقتصادية ثقافية علمية وعسكرية، تعينه على تحقيقها ثروة نادرة في الموارد الطبيعية، في القدرات البشرية وفي الامتداد التاريخي. والولايات المتحدة الاميركية تريد ـ بعد انهيار جدار برلين ـ تحقيق النظام العالمي الجديد الذي يعني السيطرة الاحادية على العالم ، من خلال السيطرة الاقتصادية بشكل اساسي. هذه السيطرة لم يكن من الممكن تحقيقها بدون السيطرة على منابع النفط من جهة، وعلى المناطق الجيوستراتيجية الاساسية في العالم. وذلك ما كان قد تم التمهيد له عبر الحرب العراقية ـ الايرانية.
هنا كان السؤال : الم يكن من الممكن لواشنطن التوصل الى حل ما مع دولة النفط العراقية كما هو الحال مع دول النفط الخليجية؟ والجواب طبعا لا، لسببين: الاول هو ان العراق ليس مجرد دولة نفط فحجم العراق على كل الاصعدة هو غير حجم دول الخليج خاصة وانه يحمل مشروعه القومي النهضوي والاستقلالي الذي لم يشكل تأميم النفط اقل مراحله.
حتى ولو لم يختلف اثنان على كم الاخطاء التي وقع فيها النظام في تطبيقه لهذا المشروع.
والثاني وهو الامر الجوهري ـ ان العامل الاسرائيلي هو العامل الحاسم في هذه القضية، فالقوة العراقية قد اصبحت، بعد اغتيال الملك فيصل بن سعود وبعد كامب ديفيد، قوة المواجهة الحقيقية الوحيدة القادرة على تهديد المشروع الصهيوني. لذا كانت الاولوية لدى اللوبي اليهودي هي تدمير العراق لا ترتيب الاوضاع معه.
دور اللوبي الصهيوني هذا جاء ليقترن بمصلحة المجمع الصناعي العسكري وهما في الواقع متداخلان، وليجعل من التعامل السياسي مع القضية العراقية ـ حتى ولو حقق مصلحة الولايات المتحدة كشعب ـ امرا مستحيلا لانه لا يؤمن مصلحة هذا المجمع ولا يؤمن القضاء على العراق كقوة على جميع الاصعدة المذكورة اعلاه.
كان الهدف اذن اخضاع العراق وتدميره ولبننته طائفيا واثنيا، اعادته من مرحلة الدولة العلمانية الحديثة الى مرحلة ما قبل الدولة وما قبل المجتع. الم يقل الوزير الاميركي بيكر ذلك صراحة لطارق عزيز في جنيف؟
الم تأت مجريات ما بعد الاحتلال كلها لتؤكد ذلك بما فيها على سبيل المثال، تدمير المتاحف والمكتبات ومسألة اغتيال العلماء العراقيين الذين تجاوز عددهم الاربعمئة واعترفت الواشنطن بوست نفسها بالتعاون الوثيق بين الموساد والاحتلال الاميركي لتصفيتهم، في حين تمت حراسة وزارة النفط كبؤبؤ العين؟
اذن، أين اصبحت هذه الاهداف والمصالح اليوم؟
اليوم الاميركيون يريدون الخلاص من الجحيم العراقي الفيتنامي، فلا قدرة لهم على احتماله، ولكنهم يريدون بالمقابل الحفاظ على هدفين اخرين: السيطرة على النفط، والسيطرة على القرار السياسي وما ينتج عنه من برنامج سياسي اقتصادي ثقافي اجتماعي. مما يترجم عمليا ببقاء القواعد العسكرية الاميركية التي انتهى انشاؤها، وانسحاب الجنود الاميركيين اليها، وتأمين المحافظة على الامتيازات والعقود التي ابرمت والحصول على ما لم يبرم منها بعد. وهذا ما لا يمكن ان يتأمن الا بالقضاء على المقاومة العراقية. هذا القضاء تتم المحاولات لتحقيقه بالوسائل العسكرية التي يتحدى المحتل وعملاؤه شعراء العراق في ابتكار اسماء لها، ويتحدون كل القسوة النازية في وحشية حملاتها ووسائلها، ولكن دون جدوى فها هي تفشل الواحدة اثر الاخرى.
اذن فالحل الامثل هو ان يترافق هذا القمع الوحشي بمحاولات التمييع والالغاء التي يسمونها الحلول السياسية. حلول تترجم عمليا بلقاءات مع قيادات المقاومة، لقاءات يتم التطبيل لها وتضخيمها اعلاميا حتى ولو كذبا، كما رأينا قبل ايام من على شاشة الفضائيات حيث صدر الخبر وتلاه تكذيبه بعد ساعات. لكن المعروف في الاعلام ان التكذيب لا يجدي نفعا بعد ان تتحقق الصدمة الاولى للخبر، وتأثيرها.
اذن، وببساطة، لن يكون ما يسمى بالحل السياسي الا حلا لتحقيق الاهداف السياسية الاميركية والاجهاز النهائي على العراق دولة ومشروعا وحضارة.
ولا يعقل ان يوظف قادة المقاومة لانقاذ الاميركيين من مأزقهم، ولرمي تضحيات العراقيين في الهباء، ولتسليم العراق سياسيا كما لم ينجح الاميركيون والاسرائيليون ومن سار في ركبهم في تسليمه عسكريا.