لانقاذ المعنى !!

صحيفة الدستور، 16-06-2005

عندما لا يعود من معنى لكل ما حولك الا للمظاهر.

جملة شعرية ايقاعها بالفرنسية جميل جدا، لان كلمتي معنى ومظهر تنتهيان في هذه اللغة بمخرج صوتي واحد، مما يضفي على اللحن الجميل ايقاعا اجمل. لكن الاهم هو العمق الذي تحملك اليه العبارة الصغيرة التي تنشدها المراة السوداء الجميلة على مسرح معهد العالم العربي في باريس.

لم آت الى هنا الا لاهرب من احزان انهمرت علي كما المطر الاسود في الاسابيع الاخيرة.لم اسال حتى عن برنامج الليلة ضمن اسبوع الموسيقى الذي يحتفل به الجميع هنا. لكن هذه المرأة القادمة من جزر القمر انتزعتني كما كل الصالة من أي شيء سواها، وسوى الجوقة الجميلة التي ترافقها. اسمها نوال، وشكلها افريقي غجري، اما صوتها فمزيج حار من دفء من هدوء ومن شجن، ذلك النوع من الهدوء الذي يخفي كل عنف العاصفة.

حولها ديكور خاص غريب من الوان افريقية تضج بالحياة، لا يفهم المرء خصوصيتها الا عندما يعيش في عالم الازرق والبني الفرنسي. امواج من نار كم تشبه امواج صخور البتراء مشبعة بالكثير من الحدة. امواج لهب الحطب ام لهب النفس الانسانية اذ تفور بانفعالاتها الغريبة العجيبة. امواج من طبيعة بكر كيف لا يصيبها الالم عندما يتحول العالم الى عالم لا معنى فيه الا للمظاهر، الى عالم اللامعنى، عالم قاس يشيء الانسان اذ يحجمه الى ملامح المظاهر.ويدفع العين الى مساحات الافقية المسطحة، لتصبح عاجزة عن العبور الى أي بعد عامودي، الى اية طبقة من طبقات الاعما ق.

حتى هم في جزر القمر يعانون مثلنا من عالم المظاهر، ام ان عالم العولمة وما افرزه من طغيان المادة لم يترك احدا افضل من احد؟

لكن لا!! هاهو مسرحهم، ملابسهم، ديكورهم، اداؤهم يصر بعناد جميل على اصالة حقيقية، لا يضيرها ابدا ان تنفتح على الآخر وتقدم اغانيها واحدة بفرنسية حلوة تجاور اخرى باللغة الام وثالثة بعربية تستوحي ايقاعها من حلقات الذكر ورقص الدراويش وكلمة الله، جاعلة من كل ذلك المزيج الافريقي الصحراوي العربي الاسلامي الفرنسي، نسيجا خاصا يصر على ان ينهي عرضه بجعل الجمهور كله يردد التحية بلغته الام.

ليست جزر القمر على القمر ولذا تعرف ببساطة ان هذه المحاولة الاصيلة ان هي الا حرب المبدعين الحقيقين ضد التنميط والالغاء، ضد ثقافة سوق لا مكان فيها لخصوصية ولابداع حقيقي يحافظ على شخصية الشعوب في اطار التفاعل لا في اطار الاتعزال، لا مكان فيها لمعنى جوهري ابعد من المظاهر. انها ببساطة واحدة من تلك الصرخات التي تطلق النداء لانقاذ المعنى.

ربما لذلك تكمل صرختها باغنية اخرى تقول : معركتك لا يقاتل فيها احد عنك !!

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون