على مساحة منصة لا تتعدى المترين ترتسم مسافة اميال بين رجال السياسة الداعين الى الاستقلالية الاوروبية وبين اولئك الذين يسيرون وعلى رؤوسهم عصبة الامركة. كما بين رجل سياسة ستراتيجي يبني موقفه على المبادىء التي لا تهمل المصالح وبين رجل سياسة ميركانتيلي لا يخجل من المجاهرة بميركانتيليته بعد ان تكون قد حققت غاياتها.
جان بيير شفينمان، الوزير الفرنسي الذي عرف باستقالاته الاحتجاجية واشهرها استقالة عام 1991 احتجاجا على الحرب ضد العراق، يدعو، مع اخرين الى تمتين محور اوروبي يقوم على: باريس – برلين – موسكو. محور من شانه ان يضمن عدم انزلاق اوروبا الى ذيل التنورة الاميركية – بحسب التعبير الذي استعمله هو في وصف سياسة فرانسوا ميتران في حرب الخليج. والى جانبه وزير الماني من اولئك الاوروبيين الذين لا يرون غضاضة في التعلق بذلك الذيل. خطاب شفينمان نعرفه واعتدناه، لكن الخطاب الاخر غريب في مكوناته وصراحته : نحن مع اميركا لان القيم الاوروبية والاميركية واحدة، وهي قيم الحرية والديمقرطية. لكنه لا يلبث بعد قليل ان يحلل منظومة القيم السياسية الاميركية ليقول انها تقوم على محورين : القوة وروح المهمة. روح المهمة التي تنبع من ايمان الاميركيين بانهم هم شعب الله المختار، وانهم الافضل على الارض ولذلك فان من حقهم استعمال القوة لنشر مفاهيمهم ونمط حياتهم وبسط سيطرتهم، مما يترجم عمليا بالحروب الوقائية والاحتلالات والتدخل لتغيير الانظمة المعادية لهم. وبما انهم يمتلكون تلك القوة فان استعمالهم لها هو حتمية مبررة.
ليست الغرابة في هذا التحليل وانما في ان الرجل، اذ يصل الى تطبيقه على الحرب العراقية يعتبر ان موقف اوروبا من عدم دخول الحرب لا يجب ان يستند الى معارضة اميركا ولكن الى منطق اخر: بما انهم هم الاقوى، وبما اننا لسنا منافسين لهم، فلنتركهم يقومون بالعمل اللازم وهم اقدر على التكفل به. واذا كان لنا ان نتدخل فلدعمهم سياسيا.
خطاب الامركة هذا ينتهي طبعا الى مهاجمة بوتين، والى معارضة محور باريس – برلين – موسكو على اعتبار ان روسيا ليست دولة ديمقراطية ولا هي دولة قانون، واغرب الغرائب انه عندما يعطي مثالا على الاختلاف بين معنى دولة القانون ودولة الديمقراطية يقول ان جنوب افريقيا العنصرية لم تكن ديمقراطية لكنها كانت دولة قانون بدليل انها سجنت مانديلا ولم تقتله.
خطاب لا يعكس الا ملامح واحدة هي ملامح الميركانتيلية النفعية الانتهازية، ملامح العنصرية االمتعالية ازاء الضعيف والتابعة المنافقة ازاء القوي ، وملامح القدرة على ليّ الحقائق القانونية والسياسية. ملامح تقول لك بوضوح ان المتامركين أسوأ بكثير من الاميركيين، وان الرهان الكبير هو سيطرة هذا التيار او ذاك على القرار السياسي في داخل كل دولة اوروبية ومنها في القارة السائرة نحو التوحد. لانه لن يكون رهانا اوروبيا فحسب وانما سيقرر مصير توازن القوى العالمي.