لست اطلاقا من اولئك المنبهرين بالنموذج الغربي، اعرف ما فيه من ثراء واعرف ما فيه من فقر مدقع… اعرف ان الدولة هنا اكثر انسانية ورقيا مما عندنا فيما منسوب الانسانية عند الافراد منخفض بما لا يقارن عما هو لدى ناسنا.
لكنني اعرف ايضا ان هذا الحس الانساني لايمنحنا حقوق المواطن ولا يلغي السؤال : لماذا لا يكون لنا الجمع بين دفء العلاقات الانسانية ودفء التمتع بالحقوق وبالاحترام ؟ سؤال لا يمكنه الا وان يقود الى الاحساس بالغيرة.
الغيرة… اجل تلك التي لم تنتابني الا نادرا في حياتي، تراودني كثيرا وانا اقابل ظواهر كثيرة في هذا المجتمع الفرنسي.
بالامس كانت هي ما طغى على مشاعري وانا ارى جاك شيراك يرد على مدى ثلاث ساعات على اسئلة مجموعة مكونة من ثمانين من الشباب الفرنسيين، استقبلهم في قصر الاليزيه للحوار حول الاستفتاء المقرر في نهاية الشهر القادم، لقبول او رفض الدستور الاوروبي.
لم يكن الاستقبال في حد ذاته هو المهم، لا ولا ادارته من قبل ثلاثة مذيعين تلفزيونيين على التوالي، فذاك ما قد يبادر اليه احد زعمائنا من باب التقليد او »الضحك على العقول«. غير ان اهمية الامر – ومصدر غيرتي – تكمن في اربع.
اولا ان اللقاء ياتي في سياق معركة انتخابية حقيقية و ديمقراطية يتبنى فيها الرئيس ومعسكره خيار النعم في مقابل معسكر اخر يتبنى خيار اللا. وكقائد معركة يقترع فيها المواطن بناءا على معرفة دقيقة بالبرنامج وعلى قناعته ليس الا، عمل الرئيس على شرح خياره والدفاع عنه ومناقشة الشباب في ادق التفاصيل، لنرى الصحافة ووسائل الاعلام تخرج في الصباح حاملة كل ردات الفعل المؤيد منها والمعارض على حد سواء ، بل وتلك التي توجه لحوار الرئيس اشد الانتقادات والتهم.
ثانيا : لم يكن الشباب المشاركون من طيف واحد ولا من طبقة واحدة ولا من موقف واحد، لقد حرص على ان تكون تركيبتهم ممثلة لجميع اطياف المجتمع الفرنسي من السائق والكوافيرة والمدرسة والمزارع الى الاستاذ والطبيب والطالب. من الابيض الى الاسود ومن الفرنسي الاصلي الى العربي. اعطوا جميعا الحديث، وناقشوا رئيسهم بحرية تامة، بل واحيانا بحدة وصلت الاتهام وطالبت بتغيير الحكومة لتسال عن احتمالية استقالة الرئيس شيراك نفسه.لكنها لم تقع ابدا في التشنج والاستفزاز ولم تخرج عن حدود موضوعية العارف.
تلقائية الشباب، جراتهم، راحتهم تعبر عن مدى رسوخ التقليد الديمقراطي، ثقة المواطن بنفسه وبحقه، والطريقة التي ينظر بها الى دور المسؤول مهما بلغت رتبته.
ثالثا : كان الحوار مقسما الى ثلاثة محاور : السياسي الداخلي والاوروبي، الاقتصادي، والسياسة الخار جية ومع كل انتقال من محور الى اخر كان المذيع الذي يقود الحوار يتبدل، في احترام للتخصص كثيرا ما نفتقر اليه نحن الذين يفخر واحدنا بانه يفهم في كل شيء.
رابعا: وفي اطار تعدد المحاور كان من الملفت ان الحوار العارف تركز على المحورين الاوليين، في حين كانت الاسئلة قليلة ومحدودة في محور السياسة الخارجية رعم ان شيراك حاول ابرازه.
مما يعكس واقعا غربيا عاما في عدم اهتمام الشباب بالسياسة الخارجية، وتركز اهتماماتهم على قضاياهم المعيشية. هنا اعتقد ان احساسا مزدوجا يتشكل لدى االمراقب: نغبطهم لان بلدانهم ليست محكومة بارادة الاجنبي، حكما يجعل الاهتمام بالسياسة الدولية الطريق الوحيد لقراءة المصير. لكننا ايضا لا نغبطهم لان الرهانات الكبرى في عالم اليوم هي رهانات دولية لا محلية، حتى بالنسبة للكتل الكبرى كاوروبا، ولن يكون من شان هذا الجهل الا وان يسهل تمرير الستراتيجيات التي ترسمها اللوبيهات الدولية الكبرى، والانتلجنسيا المعروفة.