مألوف طيف الام في الابداع الادبي لجميع الكتاب ايا تكن ثقافاتهم، لكنها في الادب الفلسطيني ظاهرة اكثر بروزا وتجذرا. لكأن اقتران ذكرى الام بذكرى الوطن هو ذلك التجسيد التلقائي لصورة الام الكبرى في اسطورة المنطقة وثقافتها. ولكان فقدان الام الكبرى، الارض، يتماهى تلقائيا مع افتقاد الام المباشرة، فاذا الحنين المزدوج يتجسد في ذكرى الاثنتين اللتين تتمازجان احيانا في خطاب ربما كان يأبى مغادرة الطفولة، خوفا من الاقتلاع والضياع. خوف يتبلور اكثر في المنافي، ناشدا القرب من الرحم الاول، ملجا وملاذا وامانا وهوية.
هذه الملاحظة تراودني هذا الصباح مع الانتهاء من قراءة كتاب ارادت صاحبته ان تسميه مجموعة قصصية لكنه في الحقيقة نتف من مذكرات امرأة لا اظنها كانت ستمارس الكتابة الابداعية لو لم تكن شوارع باريس تعصف بها حنينا الى البيت… هناك في غزة.
منذ جئت باريس وهيام بسيسو تناضل لاجل اصدار هذا الكتاب الصغير، لكأنه بالنسبة لها تحد اخر غير التحدي الادبي وهي المراة التي تقف على اعتاب منتصف العمر، دون ان تكون الكتابة الابداعية قد شغلت حياتها الا لتسجل يوميات من حرب لبنان، او شهادة على سقوط تل الزعتر.
لكنها عندما حملت الي كتابها قبل ايام فوجئت بانها اختارت للغلاف صورتها وهي طفلة صغيرة، وصورة اخرى وهي شابة صغيرة: غزة وبيروت…. وذكريات طفلة تكثر الحديث عن امها، وشابة تتذكر الشباب الذين احبتهم ومضوا قبل اوانهم. لا تتعب نفسها في عملية تغيير الاسماء او المواقع، ولا في العمل على الشكل القصصي واللغوي. تتحدث بمباشرة وبساطة، تسرد ذكرياتها في حكايات كنت افضل لو انها ساقتها باسلوب قصص الاطفال، وليس ذلك من باب التقليل من اهميتها. بل لسببين: الاول كون اسلوبها ولغتها اقرب لحكايات الاطفال، وثانيا لان ادب الاطفال يحتاج الى الكثير من الحكي عن فلسطين وعن غزة وعن بلادنا عامة. حكي يلتصق بالحسي والحياتي: بالزهور والثمار والشوراع، بلعب الاطفال وسلوك الامهات، بحياة الشباب ويوميات التجارب، بالعادات والتقاليد وحتى اللهجات.
كون الكتاب صادرا بالفرنسية يعطيه اهمية عبر عنها الناشر على الغلاف الخارجي بقوله: »من يستطيع، عند قراءة هذا الكتاب الا وان يفرح لانه يعيش في منطقة بعيدة عن الحروب والاجتياحات والتدمير؟…. كل من يقراه يستطيع ان يتبين كم هو رهيب التمزق الذي ينجم عن الفراق وعدم السماح ابدا بمتعة لقاء الاهل والاعزاء، فيتحولون الى رائحة، الى لون، الى ظل للبلاد التي امتدت فيها جذور الجدود لتنتزع منها بالقوة او لتدفن حية«.
اكتب عن »ابتسامة في المنفى« واذكر عبارة ليحيى يخلف: ان تاريخنا يفلت كما الماء من بين اصابعنا وعلينا تسجيله. واشعر بالذنب لانني لم اكتب عن عمل روائي كبير سجلت فيه مي الصائغ تجربة غزة بعمق واحاطة، بلغة شاعرة وتجربة مناضلة ناضجة، وبنية روائية مجتهدة. اعرف انني لم افعل لانني اردت ان امنح رواية مي اكثر من زاوية صغيرة. واعد نفسي ان افعل.