من الشرق يطلع الفجر !!

صحيفة الدستور، 17-03-2005

المساء عطر برائحة البخور، والمكان عتيق عريق مهيب يوحي بكل ما في عمق النفس الانسانية المتعبدة.

الجو شرقي بامتياز اسطوري. .. لكأنني استللته من ذاكرة المدرسة الاولى في دير الراهبات في لبنان، او لنقل في مكان اخر من المشرق العربي.

هذا الشهر هو شهر الصيام المسيحي، شهر الام السيد المسيح، وهذه الكنيسة الواقعة في الدائرة الثالثة من باريس، كنيسة الارمن اختارت ان تحيي هذه الامسية تمجيدا لمريم المجدلية، بعرض اسطوري تؤديه راقصة هي من الاوائل على مستوى اوروبا. عرض يحكي بالحركة قصة المجدلية، ويعبر عن كل ما تحمله قصة تلك المرأة من قيم جميلة.

تسع لوحات، عناوينها تكفي للتعبير عن كل شيء : »انها اتية من مجدلة«. – »من الشرق يطلع الفجر« – »احمر الرغبة الالهية« – »يوحنا واغنية الماء« – »الثوب الاحمر على الجبل الغارب« – »الذي اجتاز الموت« – »تيه تحت الجبل الاجوف« – »في نور الملاك «.

كل شيء هنا من هناك، من مجدلة الى المجدلية، من الاحمر الى الماء : اللون الاحمر، يكسو كل شيء من الستارة الى سائر ديكورات المسرح ، والشرق يطل من كل هذه، من الابريق النحاسي التقليدي الذي يرمز الى غسل المجدلية قدمي السيد ندما وتوبة، الى شكل الملابس التي ترتديها، الى الحلي الفضية العربية الخالصة، بل والوشاح الابيض الطويل الذي تضعه في مرحلة ما من الرقص، لكانها استعارته من احدى نساء بيت لحم، او من اية فلسطينية تكمل به حلة الثوب. لكن أوليست المجدلية امرأة كنعانية فلسطينية ؟ او ليس المسيح شابا فلسطينيا؟ او ليست المسيحية كلها، من الفها الى يائها اعلى تجل لديانات الخصب التي تشكل تراث منطقة الهلال الخصيب ؟ أو ليس رمز الماء والتطهر به هو تجسيد الخط الحضاري الذي يميز ديانات الماء عن ديانات النار ويجعل الماء بما تعنيه من قيم سمة الخط الذي يميز حضارتنا في مقابل خط النار الذي يميز الخط الهندو اوروبي ؟

جميل اننا اعطينا المسيحية للغرب وللعالم، وطبيعي ان يعمل كل مجتمع على اقلمتها وطبيعته، لكن المنطقي ان يكون ذلك هو الدفق البهي الذي فاض من بلادنا وحضارتنا على العالم، المد الانساني الذي يقيم جسورا وتواصلا. لكنه في الوقت ذاته يمنحنا الاحترام والثقة في عيون الاخرين، وفي عيون نفسنا.

ثلاث ساعات، والمرأة المذهلة تحملني الى البعيد القريب، الى السحيق الممتد. … الى مكان هو الهناك والهنا، الى زمن راقصات المعابد المقدسات…الى معنى احترام الجسد حتى التقديس والعبادة، الى زمن اكتناز سنبلة الفنون بالابعاد الروحية الشفافة. تمنحني اجازة من زمن السوق المقرف، زمن تشييء الجسد، تسليعه. .لا بل تجاوز تسليع الجسد ذاته الى استعماله اداة لتسويق السلع. .. اي موت للانسان. ..ذاك الذي لم تأت الاديان الا لاحترامه وارتقائه ..

في النشرة التي تقدم العرض عبارتان تمطران في داخلي : المجدلية، وهي تكتشف في كيانها الانثوي الاكثر ديمومة قبس الحب الالهي، تجعله يشع… هل يتحدث الكاتب عن المجدلية ام عن رابعه العدوية، ام عن اول امرأة كتبت قصيدة في التاريخ الانساني فكانت للالهة السومرية اينانا ؟

وفي الجملة الثانية : يتبدى الابداع الاستثنائي للراقصة التي تستسلم بدون تحفظ لقوة الارث الابدي ارث الانوثة في عظمتها المطلقة

أو ليس ذاك ارث الام الكبرى، الارض ؟

الارض التي يصفعني التلفاز مع عودتي الى البيت بخبر يقول ان الكنيسة الارثوذكسية في القدس تبيعها ليهود. بخمسين من فضة.

 

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون