فيينا باردة، باردة. لكنها جميلة وقصية، كامراة مستعصية، كرجل… لا لا اجد صفة، هذه المدينة امرأة بامتياز، لكنها امرأة ارستقراطية اصيلة، وتعرف كيف تحافظ على المسافة بينها وبين الاخرين.
في المرة الاولى زرتها لحلقة في الاكاديمية الديبلوماسية حول دور الميديا في حوار الحضارات، واليوم اعود لموضوع اخر هو موضوع الاندماج، ودور الفضائيات العربية في هذه العملية الاجتماعية.
دور الفضائيات العربية اعتبره هنتنغتون في كتابه الاخير، سلبيا وخطيرا، لانه، برأيه يعيق عملية الاندماج، اذ يربط المهاجر بوطنه الام، بلغته، بثقافته، مؤخرا اندماجه في الثقافة الجديدة.
بالنسبة لاوروبا، المسالة اخطر واهم، لاسباب منها ما يتعلق بالجغرافيا ومنها ما يتعلق بالتاريخ.فجغرافيا، لا تفقد الهجرة الى اوروبا التواصل الفعلي الا قليلا مع الوطن الام، وتاريخيا ثمة علاقة مركبة من قرب وبعد، من حب ومن كره، من تقارب ومن بعد، ككل علاقة تنشأ بعد مرحلة استعمار لم يهمل العنصر الثقافي.
لكن المسالة تؤدي في نهاية البحث الى سؤالين اساسيين : الاول يتعلق بكيفية النظرة الى موضوع الاندماج، والثاني بقضية مركزية في هذه المرحلة من عمر العالم، وهي قضية الخيار بين حوار الحضارات او صدامها.
فبالنسبة للسؤال الاول : هل يراد بالاندماج ان يفقد المهاجر كل صلة له بثقافته الاصلية، ان يسحب دمه ليحقن بدم جديد؟ ام يراد لها ان تكون عملية دمج لا بد من ان تخلق حالة جديدة هي اشبه بكأس الليموناضة، لا هو الماء ولا السكر ولا الماء الصافي؟ وهل يمكن ان يكون الرد على محاولة التجريد، انكفاء الى حالة عزلة وردة اصولية غريبة؟
اما بالنسبة للحوار، وهو بلا شك ضرورة في مصلحتنا ومصلحة جميع امم العالم باستثناء اسرائيل وفكرها الصهيوني، وقوى المجمع الصناعي العسكري الاميركي، فانه لا يمكن ان يتحقق بمجرد الدعوة اليه، ولا بواقع ارغام الاخر على القبول به، انه يتطلب السير بالعلاقة الى حالة من الاعتراف والاحترام المتبادل، من الاقرار بالحقوق والكرامات.
وهنا، امام هذا الشرط يبرز السؤال : لو كان الامر كذلك، هل كان هؤلاء المهاجرون هنا الان؟
اثمة شيء وراء الهجرة العربية الاخذة بالتكثف منذ قرون الا الظلم والفقر؟
ظلم المحتل او المستعمر او ظلم ادواتهما التي اوكل اليها امرنا في غيابه، وفقر بلداننا الغنية الثرية المنهوبة حتى الفاقة.
نظرة واحدة الى هذه الملايين المرمية على خاصرة اوروبا، الحائرة في امرها، العاجزة عن تشكيل ثقل رغم ثقلها، المتسولة قبولا هنا، والمتسولة مواقع او تمويلا هناك، الهائمة في حال ضياع الهوية والبحث عن الذات، نظرة واحدة، عن قرب، تجعلنا ندرك كم نحن مساكين. ادراكا لا يتعمق اكثر الا عندما نرى كم يحسد المقيمون، الذين لم يهاجروا بعد هؤلاء المهاجرين!!