النموذج!

صحيفة الدستور، 28-02-2005

كلما شاء الاميركيون والغرب بشكل عام تطبيق خطتهم على المنطقة ، طلعوا علينا بشعار »النموذج«.

بالامس كانت الوعود التي يسيل لها لعاب المرتخين والمرتشين بجعل العراق نموذجا للديموقراطية والحرية في العالم العربي بل وفي الشرق الاوسط. وبعد وقبل العراق سمعنا الكثير عن »نماذج«، وها اخرها اليوم الحديث عن جعل لبنان نموذجا اخر للحرية والديمقراطية. بحيث لم يبق للمواطن العربي الا وان ينام ويحلم بغده النموذجي. لكن لا بأس في انتظار ذلك، بل ومع تحقق ذلك من ان ينام خاوي البطن، لاباس من ان تنام تحت وسادته هموم لقمة ابنائه التي يصبح تأمينها امرا مستعصيا اكثر فاكثر فيما تتسرب ثروات بلاده الى جيوب غاصبيه، لا بأس من ان ينام عاريا من كرامته ومن كبريائه، مرتجفا من برد صورته المخزية، مختنقا من الكمامات التي ما زالت تخنق انفاسه المحظورة الا لتأييد السيد، لا باس ان حلم ليلا بصور سجناء ابو غريب، او بصور شهداء فلسطين او بيوتها المهدومة او زيتونها المقتلع، ببيروت وسياراتها المحترقة وناسها المتفحمين. لا بأس ان كان في مخيم فنام ملتحفا باحباط حلمه بالعودة، او كان خارج المخيم فنام قلقا من انعدام هذه العودة. لا بأس ان شهد كل ما ناضل من اجله بالدم والعذابات والتشرد يتحول الى اشباه وهمية أسوأ من غيابها. فهذه الديمقراطية التي تتحقق الان على الساحات العربية لا تمت باية صلة الى الديمقراطية الحقيقية التي حلمنا بها وناضلنا لاجلها، ناضلنا لاجل ديمقراطية تحل حكم الشعب فاذا نحن امام مسرحية وهمية تحل حكم الاجنبي وعملاءه. ناضلنا لاجل ديمقراطية تنظم توزيع الثروة فاذا نحن امام ديمقراطية تلغي الطبقة المتوسطة، وتلغي البورجوازية الحقيقية لتحل محلهما طبقة من ادوات الشركات متعددة الجنسيات، مباشرة او عبر فروعها المحلية، ومن شركاء الباطن الصغار للفاسدين الكبار في الادارات الاميركية والغربية. ناضلنا لاجل ديمقراطية تكرس احترام التعددية الفكرية، ايمانا بحرية الفكر، لتفعيل حراك اجتماعي يؤدي الى بلورة الافضل للنهوض، فاذا نحن امام ديمقراطية تجتث الفكر السياسي بعنف وقمع لا سابق لهما، وتكرس مكانهما تعددية الاتنيات والطوائف والمذاهب التي تفسخ وتجزىء وتدمر، على طريق الانحطاط والارتهان. ناضلنا لاجل سيادة القانون، فاذا القانون يفصل ويوسع ويضيق على قياس عصاة السيد العبد لدى سيده. ناضلنا لاجل امة حرة ومواطن حر فاذا نحن امام امة محتلة ومواطن يربت على كتفه ان رضي العبودية، وتكسر كتفه ان رفض. وبهذا كله يراد لبنان ان يصبح نموذجا.

لا، لم يكن لبنان يوما نموذج اللديمقراطية ولن يكون في المنظور القريب، لم يكن قبل الحرب، ولا خلالها، ولم يكن قبل الوجود السوري ولا خلاله، ولن يكون بعده. حتى ولو دغدغ الغرور اللبناني كثيرا القول بان بلاد الارز نموذج. صحيح ان بيروت قد شكلت في مرحلة ما من التاريخ العربي المعاصر واحة ورئة، لكن ذلك لم يحصل بفعل الانتخابات البرلمانية، بل بفعل وجود الاحزاب والمنظمات وكبيعة التوازنات التي تحكم الساحة اللبنانية.

اما الانتخابات فامر اخر: ان هي الا عملية وراثة عشائرية اقطاعية، وقسمة طائفية، دخل عليها الفساد المالي عبر منهجة شراء الاصوات، في غياب اي برنامج سياسي يقدمه المرشح ليتم الاختيار على اساسه.

وعندما بدا شيء من الحراك السياسي الحقيقي بفعل نمو الاحزاب يغير الصورة في السبعينات، حيث رأينا لاول مرة مرشحين ينفصلون عن »العائلة« بفعل موقف سياسي، ومرشحين يطرحون برنامجا انتخابيا، تفجرت الحرب. علما بان ذلك التحول كان ما يزال في بداياته، ولم يؤد باي من هؤلاء المجددين الى تحصيل كم من الاصوات توصله الى القبة، باستثناء نجاح واكيم الذي شكل ظاهرة اكثر من فريدة :(مسيحي من خارج بيروت، من طبقة متوسطة، لاينتمي الى اسرة سياسية، يحصل رقما قياسيا في بيروت السنية، بناء على طرحه الناصري).

لقد كانت لعبة الاستعمارالاجنبي السيكولوجية بان اقنع اللبنانيون بانهم متفوقون على بقية العرب ومتميزون عنهم، فصدقوها حتى الجنون. ساعدتهم في ذلك مسحة الانفتاح على الغرب عبر الارساليات الاجنبية، وشيء من الرخاء الاقتصادي، ولنقلها بصراحة، تخلف العديد من المجتمعات العربية الاخرى.

وها هي اللعبة تعود من جديد، بالقول ان هؤلاء الذين ذبحوا بعضهم وبلادهم طوال ثمانية عشر عاما سيصبحون نموذجا للعالم العربي.

الم يصبح مصطلح اللبننة مصطلحا معتمدا في الخطاب السياسي، اهذا هو النموذج؟

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون