شارع وشارع!

صحيفة الدستور، 21-02-2005

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تشهد اوروبا مظاهرات بالحجم الذي شهدته ضد الرئيس الاميركي جورج بوش.

وربما تبادر الى الذهن ان الحضور العربي الكثيف في القارة القديمة هو ما يغذي السيل البشري الذي كنا نراه في مظاهرات العامين الماضيين، لكن المشارك في تلك المظاهرات يلحظ بوضوح ان الحضور الاوروبي هو ما يشكل الغالبية، حتى ولو كان ذوو الاصول العربية متواجدين بقوة.

بالامس رأينا بروكسل تضج بالمتظاهرين، استباقا لحضور الرئيس الاميركي لقمة الاتحاد الاوروبي، لكن المفارقة الغريبة هي انه في الوقت الذي كنا نرى فيه تظاهر الشارع الاوروبي ضد سياسات الولايات المتحدة، كنا نرى جزءا من الشارع اللبناني يتظاهر، عن وعي او عن غير وعي، دعما للسياسات الاميركية.

قد يقول السطحيون ان المصلحة المحلية لهؤلاء المتظاهرين تقاطعت في لحظة تاريخية مع سياسات الولايات المتحدة، لكن ذلك لا يعدو السطحية المطلقة فهؤلاء الذين يسمون انفسهم بالمعارضة اللبنانية لا يمثلون لسياسات المحافظين الجدد الا عصاة يضربون بها في الشرق الاوسط لتنفيذ استراتيجياتهم، وما من تقاطع حقيقي لهذه الاستراتيجيات الا مع الاستراتيجيات الاسرائيلية.

والمنعطف الخطير هنا، يتمثل في سابقة يسجلها هذا التحرك: فحتى الان كان النظام السياسي الرسمي ينفذ المخططات الاميركية، لكن الشارع العربي ظل، بدون اي استثناء خارج هذا الدعم، بل انه ظل الصوت المناقض والمناهض، وفي حين ظلت صور طلاب جامعة القاهرة وهم يتحدون الابواب الحديدية تعبيرا عن الاحتجاج على العدوان على العراق، ها نحن نخشى من ان تتحول صور طلاب بيروت الى تأييد ولو غير مباشر للعدوان على سوريا، بل وعلى نصف لبنان، دون ان ننسى ان هذه الصورة تأتي لتحل محل صورة اخرى لطلاب بيروت انفسهم وهم يزيلون بالقوة الحواجز الشائكة التي نصبها الاحتلال الاسرائيلي في جنوب لبنان قبل التحرير.

واذا كانت الموضوعية تقتضي طرح السؤال: من المسؤول؟

فان الجواب عليه هو من اصعب الامور واعقدها، واكبر من ان يتسع له مقال صحافي، لانه جواب التاريخ الممتد الى اكثر من قرن ونصف، جواب العلاقة المعقدة بين الغرب الاستعماري وبين العالم العربي، دون ان نغفل ايضا العودة الى ما هو اقدم، الى مسؤولية الاستعمار العثماني (حتى ولو كان هذا التعبير لا يعجب الكثيرين)، لكنها اجابات تفضي كلها الى قضية الطائفية والتجزئة، والى سوء ادارة جميع الذين كان لهم ان يديروا السياسة اللبنانية، بمن فيهم السوريون الذين ارتكبوا من الاخطاء ما هيأ الناس كلها للتجاوب مع اي احتجاج ضدهم، اخطاء قد يكون منها ما هو عائد الى طبيعة العقلية التي يديرون بها سوريا منذ عقود.

غير ان الموضوعية ايضا تقتضي الاعتراف بان القيادات السياسية التي تقود التحرك الان لا تفعل ذلك اطلاقا لانها تصدر عن عقلية افضل، فمن لم يتورط سابقا في العمالة للاجنبي ولاسرائيل، مارس مثله من تورط فيها، في نطاق سيطرته، خلال الحرب او بعدها، ما هو اسوأ بكثير من الممارسات السورية.

 

كما ان من لم يكن مشاركا في الحكم منذ الطائف وبالتالي شريكاً للسوريين، كان يتمنى ان يمنحه هؤلاء فرصة المشاركة، وما غضبه عليهم الا من باب انه لم يحصل على الحصة المطلوبة من الكعكة، خاصة اذا كانت هذه الحصة قد اعطيت لابن عم منافس على رأس العائلات الاقطاعية (من مثل سمير وسليمان فرنجية الى اولاد لحود الى اولاد المر.. الخ) او لخصم تاريخي منافس في السياق الاقطاعي نفسه (اوليس ما اثار جنون وليد جنبلاط هو دعم سوريا لطلال ارسلان، امتداداً لحروب اليزبكية والجنبلاطية التي دمرت الجبل منذ العثمانيين؟).

ان قراءة عارفة للتركيبة اللبنانية لا تجعلنا فقط ندرك ما يمكن ان تفعله بنا العقلية القبلية الطائفية والفئوية الاقطاعية العائلية بل وتثير فينا غضبا مشفقا على اللبنانيين الذين يقبلون بغباء سياسيا غريبا ان يجعلوا من انفسهم باستمرار وقوداً رخيصا لهؤلاء الامراء الفاسدين.

لكن أليست تلك نتيجة الدول المصطنعة والانظمة التي لا علاقة لها بمصطلح الدولة؟

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون