الوجوه كلها كانت مكفهرة، رهبة الموت بحد ذاته، ورهبة الحدث وما يمكن ان يؤدي اليه، وحتى ان لم يكن فعلى الاقل احتراما للحظة القدر.
وجهان فقط رأيتهما عاجزين عن اخفاء الفرح وعن كبت الابتسامة المتشفية، طوال ثلاثة ايام تسمرت خلالها امام شاشة الجزيرة: وجه بروفسور لبناني لم نسمع به سابقا، شارك من واشنطن في برنامج الاتجاه المعاكس غداة العملية، ووجه جورج بوش.
بالنسبة للرئيس الاميركي، طبيعي ان يفرح، فها هي ستراتيجيته تقفز قفزة اسطورية في المنطقة، قفزة لم يهمه معها ان يتهم سوريا او لا يتهمها، فهي قد باتت في المصيدة، حتى ولو كان كل عاقل يدرك ان اخر المستحيلات، هو تورطها في العملية التي لم يتأذى منها احد كما تأذت.
جورج بوش خرج ليملي على سوريا الاسيرة في دائرة الحدث شروطه بالترقيم: المساعدة في قمع المقاومة العراقية، تسليم البعثيين العراقيين الموجودين لديها، تصفية المنظمات الفلسطينية المعارضة، وسحب اليد من حزب الله. لم يكلف نفسه حتى عناء القناع المألوف بحديث عن الديمقراطية والحرية والاصلاح، فوضعه القوي الان تجاوز الحاجة الى المبررات الكاذبة.
بعد الانتخابات العراقية، بعد شرم الشيخ، وبعد ماوافقت عليه الدول العربية سرا بعد شرم الشيخ. بعد المصالحة مع اوروبا، المتوجة بالتفاهم على اقتسام الغنيمة مع الخصم الاهم في القارة العجوز، الذي كان يقود هذه القارة الى عرقلة السياسة الاميركية. حان الوقت للانتقال الى الخطوة المركزية التالية في الخطة الاميركية الصهيونية، تحييد الخطر الايراني. بصرف النظر ما اذا كان هذا الخطر يهدد اسرائيل حقا ام لا.
واذ اقول هذا فأنا لا احلل، ولا اتنبأ، لان هذه الخطة معلنة وموثقة، لا في تصريحات وتكهنات فحسب، بل وفي كتب مهمة. يكفي ان نعود، من بينها، الى كتاب بنيامين نتنياهو »امن وسلام – استئصال الارهاب«، الذي صدر عام 1996 واعيدت طباعته عام 2001 مع مقدمة جديدة، هي عبارة عن خطاب القاه الستراتيجي الاسرائيلي في الكونغرس بعد احداث 11 ايلول.
محور هذا الكتاب، الذي يدل عليه عنوانه، هو برمجة كيفية استئصال ما يسميه منذ عام 1995 بالارهاب، ويقسمه الى شقين: الارهاب السني والارهاب الشيعي، مركزا على ان الخطر الحقيقي في المنطقة ليس منظمة التحرير الفلسطينية ولا سوريا ولا ليبيا او سواها، رغم انها تندرج كلها في اطار الارهاب. الخطر الحقيقي هو العراق وايران، لاسباب تتعلق بالقدرات الطبيعية والبنيوية، مضافة الى الموقف الايديولوجي. وعلى هامش ذلك اعتبر نتنياهو انه من الضروري تصفية ما اسماه بالجيوب الارهابية في غزة ولبنان، اي حماس وحزب الله. ستراتيجية لم يترك اجندتها للصدفة، وانما حدد مراحلها بدقة متناهية معتبرا ان تصفية العراق ينبغي ان تنتهي قبل نهاية القرن، لتليه ايران مع نهايته ايضا، وذلك لضرورة اساسية، هي ان تصفية العراق لا بد وان تتم قبل ايران، ولايمكن ترك هذه الاخيرة اكثر من نهاية الالفية الثانية، لان ذلك قد يعطيها فرصة استكمال برنامجها النووي، مما يجعل القضاء عليها مستحيلا.
هذه الستراتيجية ليست ستراتيجية الليكود الاسرائيلي وحده، علما بان الليكود هو اليوم في السلطة في اسرائيل والولايات المتحدة، ولكنها ايضا ما تبناه ايهودا باراك في برنامجه السياسي ولكن مع فارق بسيط جدا وهو انه كان يعتقد بتحييد الفلسطينيين عبر اتفاق ما للتفرغ للخطرين الاساسيين، ولاسباب داخلية ايضا.
في هذه الستراتيجية يقع لبنان اليوم موقعا مهما جدا لسبب بسيط وهو ان ايران قد نصبت فيه قاعدة متقدمة على الحدود الاسرائيلية، يمكن ان تتحرك في حال تعرضت طهران للخطر. كما انه يشكل خاصرة موجعة لسوريا يمكن عن طريقها تحقيق ما تم في العراق بدون التضحية بجندي اميركي او اسرائيلي واحد، وبدون خسارة قرش واحد. تكاليف لم يعد بامكان حكومة بوش ان تتحملها لا امام الشعب الاميركي ولا امام الكونغرس.
وبما ان في لبنان كتلة بشرية جاهزة ابدا للتعامل مع الاجنبي بما فيه اسرائيل، خاصة عندما يضم هذا الاجنبي فرنسا، وبما ان رهبة الحروب الاهلية التي تضرب المواطنين البسطاء لا تصيب السياسيين الذين اعتادوا ان يفجروا مثل هذه الحرب كل عقد او عقدين، منذ 1845 وحتى الان، وبما ان الادارة السورية قد ادارت وجودها في لبنان بشكل احمق، رغم ان الخيار الستراتيجي من هذا الوجود كان ذكيا. فقد كان يكفي نسف الجسر الوحيد المتبقي بين الاطراف اللبنانية المختلفة، لاشعال النار.
الخطة نجحت، ولذلك نفهم لماذا كان بوش عاجزا عن اخفاء ابتهاجه. اما ابتهاج البروفسور اللبناني الذي تباهى بانه كان يحضر جزءا من اجتماعات البيت الابيض حول لبنان، فانه من باب فرحة الهر الذي يلحس المبرد بغباء وعمالة وحقد.