الصالونات تكذب لكن القبور صادقة، يقول هنري هاين، ويستعيد دومينيك دو فيللوبان هذه العبارة عندما يطرح مظرية سياسية حول ما يسميه رجل العبور او القائد المعبر (لا بمعنى التعبير وانما بمعنى الذي يقود العبور من حالة الى حالة او من مرحلة الى مرحلة) وفي معرض ذلك يقول ان قائدا من هذا النوع تتحالف ضده كل قوى المحافظة التي تعارض التغيير الذي ينادي به. ويضيف حرفيا »وسواء لاقى رجل العبور مصير وقف انطلاقته او خيانة الاخرين وحتى المقربين لعمله فانه يظل استاذا للطاقة الوطنية شرط ان يظل كبيرا مفضلا التضحية على التنازلات والحلول الوسطى«…. »وكلما كانت نهايته اكثر تراجيدية كلما اشع اكثر بعد ذهابه، واينع في خيال الناس والقادة الذين ياتون بعده«.
اية مصادفة ان انتهي من قراءة هذا، لاتناول صحيفة القدس وفيها تقرير طويل عن حديث عن صفقة ما لاخراج صدام حسين من السجن وابعاده الى جهة ما.
عبارتان من القراءة اعلاه اتسعتا في الذهن مساحة المرحلة ومساحة المستقبل : »استاذ الطاقة الوطنية« و»خيال الذين ياتون بعده«.
لم يعد صدام حسين هو هم المرحلة بالنسبة للاميركيين والصهاينة، لم يعد تحديد مصيره يهمهم الا بقدر ما يكون لهذا التحديد من اثر على المقاومة العراقية اصلا وروح المقاومة العربية لاحقا. صدام حسين انتهى ولم يعد يشكل اي خطر على المشروع الغازي، لكن »الطاقة الوطنية« و»خيال قادة المستقبل « هما الخطر المخيف للجميع. لذا فان ما يحدد الاستراتيجية الاميركية الان ليس ابدا حقد يحمله عراقيون اضطهدهم نظام صدام حسين، وانما تحليل كيفية القضاء نهائيا على خط كان التزام صدام حسين به، هو سبب استشراس الاميركيين ضده، ولا نظن انه ما يزال هناك ساذج يعتقد ان سبب ذلك كان الطبيعة القمعية للنظام العراقي.
النهاية التراجيدية التي يتحدث عنها الوزير الفرنسي ستحول صدام حسين من جلاد الى ضحية، ووقوعها على يد الاحتلال ستجعل منه شهيدا والشهيد غذاء لا ينضب لروح المقاومة، ستجعل منه زنوبيا او هنيبعل او قخر الدين او اللندي . ستمسح الكثير من حقد العراقيين عليه، الذي يتحول لاشعوريا رفضا للمشروع الذي حمله. ولذلك فالحل الامثل هو تنقيه صورته بعد شيطنتها، في البدء كان وجهه البشع المرعب ضروريا لتبرير الغزو والاحتلال في عيون العراقيين والعالم، والان اصبحوجهه المتفه الذليل ضروريا لقتل معنويات جميع القوميين والوحدويين والمعادين للامركة والصهينة.
بروفة المحاكمة الاولى اثبتت ان هذه المحاكمة ستشطب الصورتين معا، وستعيد تاكيد صورة كرامة وصمود، لن تشكل الا شحنا للمقاومة، حتى تلك التي لا تمت الى البعث.
صدام حسين الاب، على هذا الاساس تعمل ابنته في الخفاء من عمان للتوصل الى اطلاق سراحه ونفيه. صدام حسين الزوج، اساس اخر تعمل عليه زوجته ساجدة من الدوحة للغرض ذاته. هكذا يقول التقرير…
الزوج والاب، ملك لامرأتين لا شك ان المشاعر وامورا كثيرة اخرى تحركهما. لكن ثمة مئتي مليون عربي يقومون بواجب الزوجية ويؤمنون استمرار النسل، وهذا الرجل الاسير لدى الاميركيين المحتلين هو شيء اخر غير هذين. خروجه سيفرح نساءه، وسيفرح ايضا كل الذين سيكون بامكانهم عندئذ تاكيد نظرية المؤامرة والتواطوء بين صدام والاميركيين، وبالتالي مسح كل صبغة قومية حقيقية وكل موقف مقاوم حقيقي لاسرائيل او لاميركا عن السياسة السابقة، كل ذلك وصولا الى الاحباط الكامل، الى الياس الكامل الذي يقتل كل طاقة مقاومة.
لقد شكل هذا الرجل يوما، شئنا ام ابينا، كرهناه ام احببناه، رمزا محددا للشارع العربي، وهذا الرمز هو ما يراد قتله، لا الاب ولا الزوج. المحاكمة والاعدام كانا سيعززان الرمز ويقتلان الاخرين، اما الخروج من السجن الى النفي قسيقتل الرمز وليبقى الاخران ليثبتا موته.
رحمة بنا، رحمة بما تبقى من امل للمستقبل، ليبقى صدام حسين في الاسر او ليمت !!